سقوط الكتاب الأخضر

نشر في 28-02-2011
آخر تحديث 28-02-2011 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري أخيراً وصلت العدوى التونسية إلى ليبيا التي كان زعيمها يظن أن نظامه بمنأى عنها، ثار الشعب الليبي في سبيل الكرامة والحرية في وجه أعتى نظام قمعي عرفه التاريخ، وهم اليوم يجاهدون للتحرير من قبضة هذا النظام الذي شكل كابوساً خانقاً جثم على صدورهم طوال 4 عقود، إنهم أبناء عمر المختار ويستحقون دعم العرب والمسلمين ومساندة المجتمع الدولي.

إن ثورة الشعب الليبي ثورة حقيقية بكل المقاييس لأنها ستهدم كل الأوضاع غير السوية في ليبيا، وستزيل كل إفرازات النظام القائم وأدواته ووسائله ورموزه، وستعود ليبيا دولة طبيعية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، هذا الشعب الأبي الحر الذي صبر طويلاً على هذا النظام الاستبدادي لن يرضى بعد اليوم بالظلم والهوان، وسيجاهد ضد هذا النظام العصي، الخارج على الطبيعة والأعراف والتشريعات، مهما كلفه من شهداء أحرار.

لقد آن لهذا النظام أن يرحل وينزوي في غياهب التاريخ، لكن الزعيم الليبي القذافي لن يستسلم بسهولة، وسيحارب حتى آخر قطرة، وقد ظهر متوعداً شعبه بأنه سيطاردهم شبراً شبراً، وسيسحقهم كما يسحق الجرذان، القذافي لن يبالي ولو قتل الآلاف، فهذه طبيعته.

ومن يجند فيالق من المرتزقة لضرب شعبه ويقصفهم بالطائرات ويرميهم بالرصاص لن يتورع- إذا أحس بنهايته- من استخدام الكيماوي ضدهم كما فعل سلف من قبله! كل الذين عاشروه عن قرب أجمعوا أنه لا أحد يستطيع توقع تصرفاته، فهو شديد النرجسية والتسلط، يعتقد أنه مبعوث العناية الإلهية، وليس مجرد زعيم طبقاً لما وصفه زميله في الثورة والكفاح وفي حركة الفاتح من سبتمبر 1969م وعضو مجلس قيادة الثورة والذي لازم القذافي طويلاً وعمل مديراً للاستخبارات ووزيراً للداخلية والخارجية ومندوباً لدى الجامعة الرائد عبدالمنعم الهوني، والذي أجاب في معرض المقارنة بين صدام والقذافي، بقوله: «إنه أسوأ من صدام بكثير، صدام كانت لديه بقية عقل، وهذا الرجل ليس لديه أي عقل».

علينا أن نتصور أسوأ الاحتمالات التي قد يقدم عليها الرئيس الليبي ضد شعبه، علينا أن نتوقع مشاهد لمجازر فظيعة وحمامات دم، وإذا لم تسارع الدول العربية والإسلامية والمجتمع الدولي لحماية الشعب الليبي فإن الأسوأ قد يحصل، وسنشهد كارثة مروعة من أكبر الكوارث الإنسانية، لذلك كانت قطر محقة تماماً حين بادر أمير قطر بمخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة، حيث طالبه في رسالة ضغط واضحة على مجلس الأمن بسرعة التدخل لوقف استخدام القوة ضد المدنيين والعمل على حقن الدماء، هذا هو العمل الحقيقي الذي يجب على المجتمع الدولي أن يبادر إليه، التدخل الإنساني السريع لحماية الشعب الليبي من نظامه الدموي، أما الإدانات الدولية الواسعة للقمع العنيف للتظاهرات والمطالبة بفرض العقوبات وإجراء التحقيقات، وكذلك تعليق الجامعة العربية لعضوية ليبيا، ومنع مشاركتها في الاجتماعات والمؤسسات، فكل هذه الأمور لا جدوى منها، ولن تحمي الشعب الليبي، ولن تمنع الكارثة المتوقعة.

إن مسؤولية العرب والمسلمين بالذات أكبر من مسؤولية المجتمع الدولي، وذلك بالنص القرآني الذي يحملنا المسؤولية «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» فأين النصير العربي والمسلم؟! وأين واجبنا الديني والأخلاقي والقومي تجاه هذا الشعب الذي يتعرض للإبادة الجماعية؟.

من بين كل بيانات الإدانة أعجبني بيان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن العطية، فهو أقوى بيان، إذ قال: إن الشعب الليبي يتعرض لإبادة جماعية من قبل النظام ودعا إلى «وقفة» عربية وإسلامية وعالمية عاجلة لنصرة هذا الشعب، وهذه هي الوقفة المطلوبة من الدول العربية والإسلامية في مواجهة هذا النظام القمعي، لنضرب على يديه ونوقف عدوانه كما أمرنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله: «انصر أخاك ظالماً أومظلوماً، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذوا فوق يديه».

لكننا طوال 40 سنة نشاهد هذا الشعب الأبي يقاسي الويلات من نظامه الاستبدادي، يطارد المعارضين حتى أقاصي الأرض ويصفيهم، ويدبر الخطط التآمرية ضد حكام وملوك، ويفجر طائرات بركابها نساءً وأطفالاً، ويبدد ثروات ليبيا على عصابات إرهابية هنا وهناك، ويصادر ممتلكات الليبيين تحت شعارات كاذبة «البيت لساكنه»، ومع ذلك لم نأخذ على يد هذا النظام، ولم نقل يوماً لأخينا قائد الثورة: كف عن الظلم!

لقد كنا- أعني نخباً سياسية وثقافية ومفكرين وكتاباً ورموزاً دينية- نعرف تمام المعرفة حقيقة النظام الليبي كما نعرف طبيعة رئيسه، ومع ذلك كنا نتعامل معه ونجامله ونتودد إليه ونستضيفه في قممنا، بل جعلناه رئيساً للقمة العربية! كما جعله الأفارقة رئيساً لاتحادهم وملكاً لملوكهم، وإذا كان الأفارقة البؤساء معذورين، إذ اشتراهم بأموال الشعب الليبي، لكن ما عذرنا؟! «أوباما» النشط أيام مبارك كان يخرج كل يوم ليقول لمبارك ارحل فوراً، أين هو اليوم؟ ساعة كتابة المقال أسمع البيت الأبيض لا يستبعد أي خيار بما فيه فرض منطقة حظر جوي لحماية المدنيين من القصف الجوي، وهذا إن تم فهو عمل إنساني عظيم.

الشعب الليبي يستصرخ المجتمع الدولي لأن القذافي يحشد قواته المرتزقة لشن غارات عليهم، وواجبنا المسارعة لمنع المجازر، النظام القمعي قصف بنغازي وأسقط آلاف الشهداء والجرحى، وبحسب تقارير المستشفيات والمنظمات الحقوقية فإن القتلى والجرحى تجاوزوا الآلاف، والمستشفيات لا تسعهم والأدوية والدم والمواد التموينية لا تكفي، إن لم ننصر هذا الشعب المجاهد فنحن محاسبون أمام الله تعالى، وهو الكفيل بنصرهم.

إن يد العناية الإلهية هي التي تقود الشعوب المضطهدة اليوم لاستعادة كرامتها وحريتها، وهي التي مدتهم بالطاقة الشجاعة لكسر حاجز الخوف تجاه الأنظمة المستبدة، لا تفسير آخر لهذه الرياح العاتية التي هبت فجأه على هذه الشعوب، إن يد القدر تدفع اليوم هؤلاء المستضعفين للمطالبة بالتغيير من دون خوف، هي تلك اليد التي قال عنها هيغل «مكر التاريخ»، ذلك المكر الذي يسري في بنية المجتمعات في غفلة منها ليحدث تغيرات نوعية تبدل الحياة والتاريخ والمجتمعات، وفي كتابنا الخالد إشارة إلى هذا الأمر «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».

لقد سقط نظام القذافي غير السوي يوم حطم الشعب نصب الكتاب الأخضر، هذا الكتاب المليء بالترهات والتخاريف والتفاهات مثل قوله «المرأة تحيض والرجل لا يحيض»، والذي اعتمده النظام وجعله المرجع الأعلى لكل شيء في ليبيا: الدين والوطنية والتاريخ والسياسة والاقتصاد والأسرة والدستور والتشريع، وصرف المليارات على طباعته وترويجه وشروحه وحواشيه وإعداد دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه عنه، كما جعله منهاجاً للتعليم عبر كل المراحل الدراسية، فغذى الناشئة به منذ نعومة أظفارهم، ولكن يد العناية الإلهية كانت بالمرصاد، إذ انقلب هؤلاء الناشئة على النظام وهم اليوم الذين يطالبون بإسقاط النظام ورمزه.

سقوط النظام سقوط لكل هذه الترهات ولكل الأوضاع غير السوية ولكل إفرازات وسائل هذا النظام الشاذ وأدواته ورموزه عربياً وإسلامياً ودولياً، هل تصدقون أن ليبيا لا تملك حتى اليوم دستوراً؟! لأن الرمز القائد اكتفى بالكتاب الأخضر بديلاً عن الدستور! إن سقوط النظام الليبي له دلالات كبيرة أبرزها عودة ليبيا إلى اسمها الحقيقي والأصيل بدلاً من الجماهيرية الشاذة، ويعني أيضاً عودة ليبيا إلى علمها وتاريخها العريق وعروبتها وامتها وأخواتها الدول العربية كعامل بناء وتنمية، ستعود ليبيا، ليبيا الحرة، ليبيا الغد، ليبيا المعوانة على الخير والتعاون والصلاح بإذن الله تعالى وستزول دولة الظلم والطغيان، وسينصر الله تعالى الشعب الليبي نصراً مؤزراً.

* كاتب قطري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top