احاذر أن تقضي عليه العمائم
ما أشبه اليوم بالبارحة... قبل أكثر من مئة سنة كان الإمام الأزهري محمد عبده، أبرز المجدِّدين النهضويين، في نفس مكان دُعاة الإصلاح الديني اليوم الذين ساروا على خطاه، كالمجدِّد الأزهري مؤسس موقع «أهل القرآن» د. أحمد صبحي منصور ورفاقه (الذين اضطهدوا واتهموا بالكُفْر والزندقة)، لاسيما في صراعهم مع التقليديين الجامدين في جامعة الأزهر... وقد اجتهد الدكتور منصور في عشرات الموضوعات التي عرّضته للاضطهاد من قِبَل الشيوخ «المتحكمين في الحركة الفكرية المصرية والعربية»، الذين اضطروا بعد عدة سنين إلى تكرار نفس قوله في بعض الأمور.
ولايزال ذلك التيار التقليدي يسيطر رغم السنين الطويلة، بعد أن أفشل محاولات الرواد الإصلاحيين في النهوض، فالمجدِّدون على مر التاريخ والعصور كانوا دائماً الأقدام التي تسير بها المجتمعات إلى الأمام... لكن تلك الأقدام كلما همّت بالحراك تكالب عليها الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، فعملا على شلّها أو قطعها... لتظل مجتمعاتنا تترنح بتأخرها وتتخبط بكبواتها حين تخلت عن مشاريعها النهضوية. لقد حاول الإمام عبده إحياء الاجتهاد الذي دفنته أتربة الجمود والتقليد... فدعا إلى إصلاح الأزهر وانتقد الأزهريين التقليديين. كما عمل الإمام (الذي عُيِّن قاضياً عام 1889 ومن ثم مُفتياً للديار عام 1899) على إصلاح شؤون الفتوى، وطالب بإصلاح القضاء الشرعي، وآمن أن درب النهضة يبدأ بالتعليم، كما أعلى شأن الدولة المدنية والتسامح وحرية التفكير ودور تلك القيم الحداثوية في تطور الأمم ورقّيها، وهي القيم التي تعلمها من خلال انفتاحه على ثقافات الحداثة التي لا تُختزَل في الغرب فحسب، بل ساهم فيها فكر ابن رشد والفلسفات المختلفة... ليُتَّهم الإمام بسعيه إلى تغريب المجتمع المسلم، فالحداثة في نظر المُتَّهِمين ليست سوى تفسُّخ الأخلاق وانحلالها وفسادها، متناسين أنهم يغرقون في استهلاك منتجاتها التي صنعتها عقلية الحداثة التي يلعنونها ويبغضونها.كان للإمام أفكار كثيرة جريئة عملت على مواكبة روح العصر، لكن صوته تلاشى وسط ضجيج التقليديين. أحد تلك الآراء كان رأيه في تعدد الزوجات الذي أباح للحاكم إيقافه، إذ يقول «أمّا جواز إبطال هذه العادة فلاريب فيه... لأن شرط التعدد هو التحقق من العدل وهذا الشرط مفقود حتماً... وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد، فسيجزم أنه لا يمكن لأحد أن يربّي أمة فشا فيها تعدُّد الزوجات، فالبيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجتيه على إفساد البيت، كأن كلاً منهم عدوُّ الآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم عدوٌّ لبعض، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت، ومن البيوت إلى الأمة»، ولكن هل كان نائب الأمة الدويسان يعي هذا الأمر حين تبنَّى مقترحاً يمنح قرضاً للكويتي الذي يرغب في الزواج من ثانية؟!لقد انتصر الفكر الأصولي حين انقلب الشيخ محمد رشيد رضا على أستاذه الإمام عبده في دعوته إلى التجديد، فتتلمَذ على يد الشيخ رضا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، ليُحتكَر تفسير النصوص الدينية، ويُغلَق باب الاجتهاد من جديد وتُخمَد محاولات تجديد الفكر الديني، وتُهمَّش الحركة الفكرية الثقافية بعد أن استحوذت الأصولية على التعليم والإعلام والمساجد... لنتذكر تحذير الإمام عبده حين قال قبل قرن من الزمان «ولكنه دينٌ أردت صلاحهُ أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ».