بيت العثمان
قد تدعو الحاجة أحدنا إلى المرور في شارع العثمان في منطقة حولي، فيرى وهو يشق الطريق المزدحم بالدكاكين المتنوعة وخليط الوجوه، بيتاً قديماً مترامي الأطراف، مغلقاً على الغموض والعراقة، ومثيراً للفضول والتساؤلات! وقد تخطر ببالك فكرة نزقة، فتود لو تدفع الباب الضخم لتسمع صريره الصدئ، ثم تطل برأسك إلى الداخل متخيلاً ما كان يموج به حياة، ومصيخاً بأذن مخيلتك إلى حوارات الرجال وتلاسن الزوجات وصخب الأطفال وثغاء الماعز ورائحة الطبيخ!
وكان البيت الكبير الذي شاخ بهاؤه وأغلقت أبوابه على الغبار والذكريات، غالباً ما يدفع إلى التساؤل عن غرابة الموقع القلق والشاذ الذي آل إليه، بين زحمة سير ومحال تجارية لا تتلاءم مع تراثيته المتفردة العريقة. فتتمنى حينها لو حُمِل هذا البيت على أجنحة الريح ووضع في بقعة أخرى، أو لو انزاحت فوضى الدكاكين وربكة المرور عن عتباته ليتنفس الهواء الطلق، ويباهي بأيامه الخوالي. لم تدم هذه التأملات طويلاً، إذ سرعان ما بدأ الحال يتغير، منذ أن رفعت إدارة الآثار والمتاحف يافطاتها على حوائط (بيت العثمان) وبدأت مرحلة الترميم والإحياء، تحت رعاية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. فاستبشرنا خيراً، وبدأنا نمني النفس بطقس الدخول يوماً ما إلى معلم من معالم التراث الكويتي الأصيل، واستنشاق روح الماضي ورائحته. وجاء هذا اليوم، حين اصطحبت ابنتي الشابة ذات صباح لرؤية هذا المعلم التراثي، بعد أن مُلئت مخيلتها وأشواقها بصور حميمة عن أجواء البيت الكويتي القديم، استقتها غالباً مما شاهدته من مسلسلات تلفزيونية كانت تجتهد في تمثيل عبق الماضي وسحره وروحانيته الآسرة. وقد كنت مثلها في هذا الشوق والتطلّع، ولكن سرعان ما ذوت آمالي وآمالها ونحن ندخل الحوش الكبير، لنراه صقيلاً ناصعاً من غير سوء!! وتكاملت خيبة الأمل في نفوسنا ونحن نشهد سلسلة من الجنايات التي لا تُغتفر، فالأبواب جديدة والشبابيك جديدة، والحوائط لامعة، والبلاط تكاد ترى وجهك في صفحته، وفتحات التكييف ممتدة في كل زاوية، ورائحة الأصباغ تزكم أنفك وتعدك بجدة الربيع! قد لا أفهم كثيراً في فلسفة الترميم والإحياء، ولكن الحسّ والذوق في قلب كل ذي إدراك وفهم سرعان ما يقوده إلى الحسرة واستهجان مثل هذه الجناية التي لا تُغتفر! فما تم من تغييرات ما هو إلا هدم ومحو تام لكل بصمات التراث وآثاره وعبقه وروحه، وهو تخلّص متعمد من كل لبنة آجر وخشبة باب ومسحة طين ولطخة جصّ ورائحة حياة، وأنفاس بشر كانوا يجيئون ويذهبون ويقومون ويقعدون، ويملأون المكان بالضجيج والضحكات والصخب والعراك، فأين كل هذا؟!! كثيراً ما يسوح الواحد منا في أرجاء العالم ومدنه ومتاحفه وآثاره، وغالباً ما نغشى هذه الأمكنة التي تعطي للبلد هويته وبصمته التراثية. ولعلنا ولا شك عاينا المعنى الحقيقي للمحافظة على التراث والعراقة والأصالة في الأبنية والمعالم الأثرية والقرى البسيطة. إذ يتم الاحتفاظ ما أمكن بنكهتها ولمحاتها الأصيلة، كالأبواب القديمة، والأخشاب المعتقة، والحجارة الأثرية، وقطع الأثاث القديم بغباره ورثاثته، وأواني الطبخ والأكل وأدوات الحياة اليومية، بل حتى بالملابس والإكسسوارات وشراشف الأسرة ومفارش الطاولات. وإمعاناً في تمثيل هذا الثراث، عادة ما يستعينون بالتماثيل والدمى لتعيد تمثيل سريان الحياة والإيهام بالعودة إلى الماضي والإيغال في إيقاعه ومفرداته. فأين نحن من كل هذا؟! أتصور أن ما يفعله القائمون على حفظ التراث المعماري لدينا أمر أبعد ما يكون عن الحفظ والمحافظة، لأن ما نراه هو إعادة بناء بخامات حديثة ليس إلا. وإن كانت هناك عناية بالنموذج القديم، فهي لا تخرج عن كونها تقليداً ونسخاً لهيكل خارجي فقد روحه وأصالته وطينته التي جُبل منها. رأينا هذا في (المدرسة القبلية) وفي (متحف الفن الحديث) وفي (المستشفى الأمريكاني) وأخيراً في (بيت العثمان). شيء جميل أن نستوحي الثراث المعماري القديم في تصميم بيوتنا الحديثة ومؤسساتنا المختلفة، ولكن يبقى أن الاستلهام والمحاكاة شيء، والمحافظة على ما هو أصيل وحقيقي شيء آخر. ويبدو أننا أضعنا الشعرة الرفيعة بينهما!