1 - انبهر الإعلام العربي بما تمَّ في تونس لخلع بن علي، واستبدال الجمهوريين بجمهوريين آخرين، في حين أن مثل هذا الانبهار، لم نشهده في وسائل الإعلام الغربي عموماً، الذي لا ينفعل انفعالاً عاطفياً بالأحداث كما ننفعل نحن، خصوصاً عندما يكون الحدث سريعاً ومفاجئاً، وغير متوقع، كما في الحالة التونسية.

Ad

ونحن كعرب، معنا الحق في هذا الانبهار، وفي هذه الدهشة، وفي هذا الأخذ الذي أخذتنا به «الثورة» التونسية، وهاأنذا أضع كلمة «الثورة» بين مزدوجين، ولا أعلم من الذي أطلق كلمة «الثورة» على ما حصل في تونس. فالثورة- كما شاهدنا وقرأنا في الثورة الأميركية 1787، والثورة الفرنسية 1789، والثورة البلشفية 1917، والثورة المصرية 1952- ليست تغيير النظام السياسي القديم، ولكنها فلسفة الحكم السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي الجديدة. وعندما نشبت الثورات الكبرى في التاريخ، لم تكن تريد تغيير الوجوه والإيديولوجيا السائدة فقط، ولكنها كانت تريد تغيير الحياة كلها. وهكذا كان، فانتقل المجتمع الروسي- مثلاً- من الإقطاع إلى الاشتراكية، ومن الدولة الدينية إلى الدولة العَلْمانية، ومن حكم الكنيسة الأرثوذكسية إلى حكم الحزب السياسي الواحد. ولكن رغم انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1989، واختفاء الإمبراطورية السوفياتية، وتفكك المنظومة الشيوعية، فإن الشيوعية بقيت في العالم. ومازالت هناك أحزاب شيوعية في الغرب وفي العالم العربي، تعمل وتنشط سياسياً، ومنها الحزب الشيوعي التونسي الذي برز نشاطه في يناير 2011.

وما أريد قوله هنا، أن الأفكار والإيديولوجيات التاريخية لا تموت، فالماركسية التي طبَّق الاتحاد السوفياتي جزءاً من مبادئها، مازالت تملأ العالم وتشغله حتى الآن، رغم اختفاء الاتحاد السوفياتي، وهو النظام الذي كان الراعي الأول لها.

2 - كلامي هذا، يأتي بمناسبة ما سمعته وقرأته وشاهدته من بعض المثقفين والمحللين التونسيين، الذين قالوا بضرورة تفكيك واختفاء حزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» التونسي الذي ظهر عام 1988 وكان يرأسه بن علي. وهذا الحزب، كان توليداً للحزب «الحر الدستوري» الذي تأسس 1920، وهو أول حزب وطني تونسي. وفي 1934 خرج من صُلبه حزب «الدستور الجديد»، الذي استطاع أن يكون أبرز حزب سياسي وطني خلال مرحلة التحرير، وهو الذي قاد البلاد إلى الاستقلال، وتمكن بذلك من الوصول إلى السلطة عام 1956 بقيادة الزعيم الراحل بورقيبة. ثم أصبح اسم هذا الحزب في 1964 «الحزب الاشتراكي الدستوري». ثم تحول ثانية إلى اسمه الحالي «التجمع الدستوري الديمقراطي» 1988. وهذا يذكرنا بقصة «الحزب الوطني الديمقراطي» المصري الذي كان هو الآخر توليداً من «هيئة التحرير»، ثم «الاتحاد القومي»، ثم «الاتحاد الاشتراكي». وخلال 19 سنة من حكم عبدالناصر (1952 - 1971) كانت الإيديولوجيا الناصرية هي الممتدة والسائدة، ولم تتغير، ولم تتفكك الاشتراكية الناصرية إلا في عهد السادات (1971-1981) حيث تم تفكيك جزء من القطاع العام، ومن مظاهر الثورة الاشتراكية العربية، التي جاء بها عبدالناصر. وبذا سُمّيَّ «الاتحاد الاشتراكي» بـ»الحزب الوطني»، وامتد ظل هذا الحزب إلى عهد مبارك. وأصبح اسمه «الحزب الوطني الديمقراطي». وإيديولوجيته خليط من الناصرية، والساداتية، وأُضيف إليها بعض البهارات «المباركية»... إلخ.

3 - فحزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» التونسي الحالي، اختطفه بن علي عام 1988 من «الحزب الاشتراكي الدستوري» الذي أنشأه الزعيم الراحل بورقيبة عام 1964، وهو في حقيقته حزب الاستقلال (حزب الدستور الجديد)، الذي حقق لتونس 1956التحرر من الاستعمار الفرنسي، بقيادة الزعيم بورقيبة. والنقمة الحالية من قبل الشيوعيين والإسلاميين- نتيجة لحرمانهم من السلطة- يجب ألا تكون على هذا الحزب، ذي التاريخ الوطني الحافل، ولكن على من اختطفوا واستغلوا هذا الحزب للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم. فالعيب ليس في الحزب، ولكن في قادته وعناصره، التي قيل إن تعدادها بلغ أكثر من مليوني عنصر قبل يناير 2011، كما أن العيب ليس في الماركسية، ولكن كان في تطبيقاتها الخاطئة والمتعسفة في الاتحاد السوفياتي السابق. والخطر كل الخطر في تونس، كان الاستئثار بالسلطة، كما حصل مع الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، و»الاتحاد الاشتراكي» المصري، الذي عزل بقية الأحزاب (راجع كتاب خالد محمد خالد، دفاع عن الديمقراطية، ومحاضر اللجنة التحضيرية عام 1962 التي عارض فيها خالد العزل السياسي لبقية التيارات السياسية الأخرى، والذي نادى به عبدالناصر، والذي كان سبباً في فشل «الحزب الاشتراكي» المصري، وهو ما يُخشى منه على «الحزب الوطني» الحاكم الآن).

4 - إن المطبَّ القاتل الذي وقع فيه الجنرال بن علي، هو عدم إقامته للمجتمع المدني التونسي الحق، الذي ترك بورقيبة مسؤولية إقامته لمن يأتي بعده، ومن شروط هذا المجتمع- كما قال المفكر التونسي العفيف الأخضر- الانتقال من ثقافة التخوين والتكفير إلى ثقافة التعددية، وما تتطلبه من صراع بين الأفكار والبرامج والفلسفات، من دون السقوط في هاوية عنف أعمى، يتساوى في نهايته المنصور بالمكسور. («من الدولة الطائفية إلى دولة لكل مواطنيها»، «الحياة»، 11/3/2001).

5 - إن «تونس الجديدة»، تتهددها أخطار كثيرة، وهي أخطار تختلف عن أخطار العراق، التي حاقت به بعد 2003، فجيران تونس ليسوا سورية وإيران، وخطر تدفق الإرهابيين إلى تونس مستبعد جداً، ولكن هناك سيوف مشرعة لكي تحطم رأس المولود الجديد، ومن هذه السيوف الأحزاب الإسلامية، وعلى رأسها حزب «النهضة الإسلامي» الذي رغم انفصاله عن التنظيم الدولي لـ»الإخوان المسلمين»، مازال يدعو دعوة «الإخوان المسلمين»، في موقفه من الآخر الداخلي والخارجي. وهو الذي سبق أن اتهم عام 1987 بتفجير أربعة فنادق تونسية، لشلِّ نشاط السياحة التونسية، التي تعتبر عصب الاقتصاد الوطني. وهو الذي ينادي بإلغاء نصوص «مجلة الأحوال الشخصية» التي حررت عام 1956 التونسيين- رجالاً ونساءً- اجتماعياً. وهناك السلفيون التونسيون وزعيمهم الشيخ الضرير الخطيب الإدريسي (صنو الشيخ المصري الضرير عمر عبدالرحمن زعيم «الجماعة الإسلامية» السلفية، المسجون مدى الحياة في أميركا، لاتهامه بمحاولة نسف برج التجارة العالمي في نيويورك، عام 1993) الذي سُجن عام 2006 بتهمة التحريض والدعوة إلى «الجهاد». وهناك السلفيون الشباب، الذين ينقادون لزعماء السلفية في مصر والجزيرة العربية، الذين يسعون إلى إلغاء العَلْمانية والليبرالية البورقيبية التونسية، وإعادة تونس إلى «عهد الانحطاط»، الذي شهدناه في عهد الخليفة العباسي المتوكل (846-862م) الذي أغلق باب الاجتهاد، وقال: «ما قرره الخلف لا يرفضه السلف». كما في تونس فرع لـ»حزب التحرير: الإسلامي الإرهابي، الذي يدعو للإطاحة بالأنظمة العربية كافة. وكلها سيوف مشرعة، تنتظر اللحظة المناسبة لتحطيم التراث البورقيبي التونسي، على الصعد كافة.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة