حين يؤكد باراك أوباما الأسبوع المقبل أن جميع القوات القتالية الأميركية غادرت العراق، كن واثقاً بأنه لن يكرر العبارة الانتصارية التي نطق بها جورج بوش منذ سبع سنوات، بأن مهمة الولايات المتحدة هناك أُنجزت. لطالما اعتبر أوباما هذه الحرب حرباً "غبية"، وقد أثبتت الأحداث صوابيته. قد تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها خلّصت الشرق الأوسط من ديكتاتور ملطخة يداه بالدماء، لكن أسلحة الدمار الشامل التي تفاخر بها صدام كانت مجرد وهم والكلفة في الأرواح الأميركية والعراقية بوجه خاص باهظة.

Ad

صحيح أن العراق لم يعُد نظاماً ديكتاتورياً، إذ تراجع سفك الدماء الطائفي الذي أعقب الغزو، جزئياً بفضل رفض بوش في عام 2007 الإصغاء إلى الأصوات الداعية إلى الانسحاب، لكن الديمقراطية الجديدة في البلاد لاتزال مزعزعة، ولهذا السبب ستبقي الولايات المتحدة على نحو 50 ألف جندي أميركي من قوات "الدعم" لتعزيز سياستها.

المنعطف الخاطئ

باتت المغامرة السيئة الحظ في العراق تجسّد، بالنسبة إلى كثير من الأميركيين، منعطفاً خاطئاً أوسع اتخذته الولايات المتحدة بعد أن هاجمها أسامة بن لادن في الحادي عشر من سبتمبر منذ تسع سنوات. يقول ستة تقريباً من أصل كل عشرة أميركيين اليوم إنهم يعارضون أيضاً حرب أوباما "الصالحة" ضد تنظيم "القاعدة" و"طالبان"، فالولايات المتحدة التي تعاني متاعب اقتصادية في الداخل مع بلوغ نسبة البطالة نحو 10 في المئة وارتفاع معدل الدَّين، تفقد الثقة بقدرتها، وربما بحاجتها إلى رسم الأحداث في مناطق بعيدة مثل آسيا الوسطى والشرق الأوسط. لكن حتى في عصر تقشّف، لاتزال الولايات المتحدة تتربع على عرش القوة العسكرية، فضلاً عن أن إنفاقها السنوي في مجال الدفاع يصل إلى 700 مليار دولار أميركي، نسبة تعادل تقريباً ما تنفقه البلدان الأخرى جمعاء. لكن العقد الماضي كشف عن حدود القوة القائمة على التقنية العالية. تمكنت الولايات المتحدة بفضل وسائلها التكنولوجية الفعالة من اجتياح أفغانستان والعراق بغمضة عين من دون تكبد خسائر فادحة، لكن إخضاعهما لم يكُن بالأمر الهيِّن. فمن أصل المليوني أميركي الذين خدموا في الحربين على مدى العقد الماضي، جُرح نحو 40 ألفاً وقُتل أكثر من خمسة آلاف.

بالنظر إلى كل ذلك، يستحق أوباما الفضل لمقاومته مغريات الانجراف وراء الميل الشعبي وتحويل تركيزه بالكامل إلى الداخل.

لعل أوباما يهتم في قرارة نفسه أكثر ببناء الأمة محلياً منه بممارسة القوة العظمى في الخارج. لكن إن صح ذلك، فهو قد كبح غريزته.

من الواضح أن أوباما لديه إدراك أقوى من بوش للحدود الأميركية. أتى في قاعدة "ويست بوينت" في ديسمبر على ذكر مثال إيزنهاور الحذر وأخبر الطلاب العسكريين بأنه رفض وضع أهداف في السياسة الخارجية تتخطى إمكانات الولايات المتحدة. كذلك وجد ضرورةً في تغيير النبرة ولغة الجسد الأميركيتين، متودداً إلى العالم الإسلامي في القاهرة، مادّاً يد "الحوار" إلى إيران، ومنحنياً أمام الرئيس الصيني هو جينتاو والعاهل السعودي الملك عبدالله.

في المقابل، يتهمه الجمهوريون بالاعتذار بالنيابة عن الولايات المتحدة وطأطأة رأسه لخصومه. فهم محقون بالقول إن مبادراته الانفتاحية أدت إلى نتائج متضاربة، إذ عامله الصينيون بازدراء في قمة المناخ في كوبنهاغن، وردّ الإيرانيون يده، وتبخرّت معظم المشاعر الودية التي قوبل بها في العالم الإسلامي بعد خطابه في القاهرة وذلك خلال العام اللاحق مع تأزم الأوضاع في فلسطين.

باختصار، يُنظر في بعض الأحيان إلى نبرته التصالحية على أنها ضعف... لكن لا يخفى أنه حقق بعض النجاحات أيضاً مثل إعادة ضبط العلاقات مع روسيا جزئياً لتشديد العقوبات على إيران. فضلاً عن ذلك، بدت أفعاله أكثر صرامةً من أقواله. فقد أعلن في ذلك الخطاب الذي ألقاه في "ويست بوينت" أنه يرسل تعزيزات إلى أفغانستان رغم عدم شعبية الحرب محلياً. كذلك لم يمنعه الحرص على عدم إثارة حساسية الصين من بيع أسلحة إلى تايوان أو لقاء الدالاي لاما في النهاية. وهكذا تسعى الولايات المتحدة بجهد أكبر من السنوات السابقة إلى تعزيز تحالفاتها في جنوب شرق آسيا، بغض النظر عن الشكاوى الصينية. ورغم تعثّر أوباما في أولى مساعيه في عملية صناعة السلام بين العرب وإسرائيل بعد تشاجره مع إسرائيل ومن ثم عدوله عن ذلك، فإنه بدأ العمل على هذا الصراع في وقت أبكر خلال ولايته مقارنةً ببعض الرؤساء، ويبدو عازماً على المثابرة. في هذا السياق، سيفتتح جولة جديدة من المحادثات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين، بمشاركة الرئيس المصري والعاهل الأردني.

لا شك في أن أوباما مُني بإخفاقات، لكن سجل جهوده يجب أن يفنّد على الأقل ما يُقال عن أنه يتجاهل مصالح الولايات المتحدة في العالم أو يتهرّب من مسؤولياته. من ذلك المنطلق، يبدو أوباما رئيساً أقل "قدرةً على التغيير" مما يجعل كلامه عن عالم جديد متعدد الأقطاب يقل عما نعتقد. فهو لا يوافق على حلم المحافظين الجدد بأن الولايات المتحدة تستطيع إرهاب جميع الأعداء والتوقّع من العالم بأسره اعتماد قيمها. لقد عمل جاهداً على الاستعانة بمساعدة المؤسسات الدولية والبلدان الأخرى، لكنه يعتقد على ما يبدو، وهو محق في ذلك، بأن وحدها الولايات المتحدة تملك القدرة العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية معاً لإنجاز بعض المهام العالمية، من بينها كحد أدنى قيادة القتال ضد تنظيم "القاعدة"، إدارة الحلبة في آسيا، منع نشوب حرب بين إسرائيل وجيرانها ومنع إيران من الاستحصال على قنبلة نووية وإطلاق سباق تسلّح نووي في الشرق الأوسط.  

لا غنى عن الولايات المتحدة

تشكل تلك اللائحة المختصرة بحد ذاتها عبئاً ثقيلاً على بلد سئم الحرب وطاله أسوأ ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية. يود كثير من الأميركيين أن يشير انسحاب القوات القتالية من العراق إلى بداية نهاية تورّط الولايات المتحدة في مناطق العالم المتخلّفة. فهم ينظرون بعين حسد مبرر إلى قوى ناشئة مثل الصين والهند كرست العقد الماضي لإثراء نفسها. لكن من الخطأ تصور أن مخاطر الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والحروب ستزول بكل بساطة إن انسحبت الولايات المتحدة من هذه الأماكن الرديئة كلّها. فإن لم تتولَّ الولايات المتحدة مهمّة احتواء مثل هذه التهديدات، من غيرها سيفعل، أو قادر على ذلك؟ رغم جميع الصعوبات التي تشهدها البلاد محلياً، يبقى المستفيد الأكبر من دولة أميركية قوية الولايات المتحدة نفسها، وأوباما يدرك ذلك على ما يبدو بغض النظر عما يخفيه في قرارة نفسه.