في حديث سابق عن ثورة الشبيبة في تونس ومصر، قلت إن الشرارة بدأت من العراق. ولكن لا على يد الشبيبة، بل على يد أجنبية. وتعزّيت بقطف الثمار الممثلة في زوال سلطة الدكتاتور، أو الحكم الاستبدادي. على أن الفرق في النتائج سيظل قائماً، وبارزاً. لأن اليد الأجنبية لا تخلو من مصلحة، ولا تخلو من عدم دراية. ولأنها تريد أن تُقيم ديمقراطية تُشبه ديمقراطيتها لكن على فراغ، تلجأ إلى أحزاب المعارضة الجاهزة. وهي أحزاب طوائف وعقائد. أحزاب مصالح تقتصر على قياداتها، وكوادرها. والشعب سيظل خارج هذه المصلحة إلى حين، لا يعرف أحد كم سيطول.

Ad

نعم، في العراق حدث هذا. بدأت فضائح القيادات والكوادر الحزبية، في التسلط وكنز الثروة وإشباع الشهوات، تُزكم أنوف العامة. وبدأت الهوّة بين سلطة الأحزاب وتطلعات العامة تتسع إلى مقدار لا يخفى فيه وجه الشبه بين ما يحدث وما كان حادثاً. وإذا ما كانت رئة العراقيين معطوبة في السابق، بفعل سلطة بالغة القمع، فإنها اليوم في دور النقاهة، بفعل سلطة بالغة الفساد. وستملك الرئة المتعافية، ولعلها ملكت الآن، قابلية أن تصرخ محتجة منددة. ولكن بطبقة الصوت الموجوعة، التي لا تخلو من عذوبة، كطبقة الصوت التي نسمعها اليوم في تونس ومصر. ستكون صرخة احتجاج تقول للرعاة المؤتَمنين على الرعية: «لقد تجاوزتم الحد!».

مظاهرات العراقيين تلتحق بمظاهرات العرب في تونس ومصر، وغير تونس ومصر. إنها تطمع في أن تتجاوز مرحلة هيمنة الأحزاب، التي سرقت حركة التغيير، إلى مرحلة «ميدان التحرير».

نعم. أنا لا أسمع في طبقة صوت الشبيبة التونسية والمصرية وتراً مشروخاً، ناشزاً. بل هناك عذوبة، ورقّة وفيّة للعقل، حتى في تقديم شهدائها. لأن شبيبة اليوم تعرف بالغريزة أن نظام الاستبداد العربي الإسلامي الحديث، التي تخرج ضده، إنما استحوذ على سلطته بحنجرة الثوري الانقلابي، المعبّأة بالأوتار المشروخة، الناشزة.

الشبيبة اليوم لا تطمع في تغيير العالم، عبر الثورة الانقلابية، أو القفزة، أو الفكرة النظرية المجرّدة. كما كان ثوريو الخمسينيات والستينيات. الشبيبة اليوم ترتاب من الأحزاب وكوادرها، التي تتحرق للسلطة (وللثروة وإشباع الغرائز المتدنية بالضرورة). إنها تريد حكماً بسعة الإنترنت، وتعدده، ووطناً غير نافر باسم خصوصية سيئة الطوية عن شرق العالم وغربه.

لقد استثنيت ليبيا، التي شبهتها بعراق صدام حسين، من أن تستطيع برئة شعبها المعطوبة التغييرَ المنشود بقواها الذاتية دون دعم خارجي، لكن الدعم الخارجي ربما سيجيء هذه المرة على غير الهيئة العسكرية الأجنبية التي شهدناها في العراق. ربما سيجيء على هيئة هبات رياح من تكاثف الأنفاس العربية المحيطة الصادرة عن الرئات المتعافية، التي لم تخضع لنظام استثنائي في استبداده كنظام صدام حسين. رئات التونسيين، المصريين، السودانيين، اليمنيين، السوريين... رياح عربية خرجت من رئات عربية، تحيط حدود النظام الاستثنائي في استبداده، ثم تندفع عاصفة لتغذي الرئات المُتعبة، فتعافيها، وتتيح لها الفرصة المنتظرة من أجل حياة كريمة.

ما كان حلماً صار الآن كياناً حياً يدبّ على الأرض. خطوات كيان لا مردّ لها، لها هدف كامن في حركتها ذاتها. ما من هدف بعيد مستقل، نائم في المستقبل الذي لا يعدو أن يكون أناشيد وأحلاماً. ما من قصيدة محرّضة يدّعيها شاعر مُتفضل، كما كان عهد الشاعر الثوري المتفضل في الخمسينيات والستينيات. الشاعر الذي كان يدّعي تحريض العامة طمعاً في الجاه والشهرة، بينما العامة كانت تحرضه عن غير قصد منها. لأن الذي يحدث اليوم ليس ثورة انقلابية يقودها حزبي أو عسكري تحت راية العقيدة، وباتجاه «الفكرة العظمى». بل فيض حياة باتجاه الديمقراطية التي لم يألفها الشعر العربي الثوري الانقلابي. باتجاه الإنسان المقدّس، لا الفكرة المتعالية المقدسة.