كان لأبي، يرحمه الله، صديق يعشق البر، ولقد دعانا مرة إلى زيارته في مزرعته بمنطقة «العبدلي»، وكان الذهاب إلى المزرعة بالنسبة لي، متعة كبيرة ومثيرة لا تعادلها متعة... أذكر ذلك، كنت صغيراً، ربما في التاسعة أو العاشرة من عمري، ولقد استغرقنا في اللعب، أنا والأطفال طوال النهار، وفي المساء تحلقنا حول «دوّة» الفحم، ننصت إلى قصص الكبار وأحاديثهم، وحين انفض المجلس، ونهضنا أبي وأنا للذهاب إلى خيمتنا، لفت نظري رجل مسن فرش جلد خروف على الأرض عند باب الخيمة، وتقرفص واضعاً زنده تحت رأسه، وغط في نومه.

Ad

بقيت أتلفت على الرجل في نومته، وحين تمددت قرب أبي داخل الخيمة، سألته:

«لماذا نام الرجل على الأرض خارج الخيمة والجو بارد؟».

«لأنه تعوّد على هذه النومة».

ردَّ أبي عليَّ بصيغة أفهمتني أنه يأمرني بالنوم، وما لبث أن دخل في نومه.

في تلك الليلة الباردة، بقيت فترة مستيقظاً أفكر بالرجل، وأسرق خطواتي خوف إيقاظ أبي، تسحبت بهدوء ووقفت بباب خيمتنا أنظر إلى الرجل غاطاً في نومه. وحين أويت إلى فراشي، ظل منظره بنومته مسيطراً عليَّ.

في اليوم التالي، رحت أتأمل الرجل، دوناً عن كل الحاضرين، وحده يفترش الأرض وينام في العراء رغم برودة الجو. خالجني شعور بأنه ينطوي على شيء أقرب إلى السر. وظل السؤال يركض في رأسي: لماذا نام نومته تلك؟ وحين تكرر الأمر في الليلة التالية، وتكرر وقوفي بباب خيمتنا أسترق النظر إليه في نومته وشخيره، تضخم السؤال في رأسي، حتى طفح بي.

«لماذا تنام خارج الخيمة على الأرض والجو بارد؟».

سرقت لحظتي، ووقفت أمام الرجل أبثّه سؤالي المحيّر. نظر إليَّ باسماً، وبهدوء قال:

«تعودت هذا».

بقيت واقفاً أنتظر منه توضيحاً، فأضاف والبسمة لا تفارق وجهه:

«لا نوم يأتيني إن لم أرَ السماء فوقي».

وحين ابتعدت بخطواتي لحقني صوته، وكأنه يستدرك معنىً فاته:

«السماء غطائي».

علّمني ذاك البدوي الباسم، أننا نبني علاقتنا بما حولنا من ظواهر الطبيعة... وحدنا نخلق علاقتنا بالبحر، والسماء، والنجوم، والقمر، والبر، والمطر، وشجرة النخل، وعشب الأرض، ووردة الياسمين، ورائحة الأرض بعد سقيها بالماء. إن درج أحدنا على إسعاد نفسه بمدّ جسور روحه إلى ما يحيط به من عناصر الطبيعة، فذاك وصل خاص، يزوّده الراحة والاطمئنان. ويمنح نفسه فسحة أن يخلو إلى الطبيعة يسامرها ويسعد بلقائها وحضورها الآسر.

لكل منا علاقة تهزّ قلبه، فهل تخيّر، مجاناً، قطعة سماء أو بحراً يخصه؟