إنها الصداقة الأكبر والأقرب والأغنى في العالم، وأهم ما فيها هو التحالف العسكري. تستحوذ الولايات المتحدة وأوروبا على نصف الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وهما تستأثران بثلث العمليات التجارية تقريباً. يستثمر كل طرف من جهتي الأطلسي الشمالي ما يفوق التريليون دولار في الطرف الآخر، لكن ما يثير الاستغراب هو عدم اتزان هذه الشراكة بأي شكل، تماماً مثل حاملي الأثقال الذين يدربون ذراعاً واحدة، تركز هذه الشراكة حصراً على الجانب العسكري، حتى أنها تبالغ على الأرجح في استنزاف هذا الجانب. في غضون ذلك، تبقى المجالات الاقتصادية والسياسية هشة ومهملة.
لنأخذ مثلاً قمتي حلف شمال الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي اللتين عقدتا هذا الشهر في لشبونة. كان اجتماع حلف "الناتو" حدثاً مهماً، فقد امتد على مدى يومين وحضره قادة الحلف وضيوف استثنائيون، بينهم رئيسا أفغانستان وروسيا. تبنى حلف "الناتو" "مفهوماً استراتيجياً" جديداً، وأعلن بدء مرحلة انتقالية طويلة تستلم فيها القوات الأفغانية المهمة الأمنية من القوات الأجنبية (على أن تكتمل هذه الخطوة عام 2014)، ووافق أيضاً على بناء درع للدفاع الصاروخي في أوروبا. تشير جميع هذه الخطوات إلى نشوء حقبة جديدة من الصداقة مع روسيا.ثم عقدت القمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد كانت عبارة عن لقاء على الهامش دام ساعتين فقط وعقد في زاوية المبنى الذي استضاف قمة "الناتو". خلال ذلك الحدث، أدلى الرئيس باراك أوباما و"رئيسا" الاتحاد الأوروبي (هيرمان فان رومبو، ممثل الدول الأعضاء، وخوسيه مانويل باروزو الذي يرأس اللجنة الأوروبية) بتصريحات موجزة. فأعلن الرئيس أوباما: "لم تكن هذه القمة مثيرة للاهتمام بقدر غيرها لأننا نتفق على كل شيء في الأساس". لكنه رفض الرد على الأسئلة وغادر فوراً. وسط الجهود التي بذلها بعض المسؤولين لفهم الوضع القائم، تولى دبلوماسيان، واحد أميركي وآخر أوروبي، شرح كيف تطرقت المحادثات "الحميمة واللطيفة والمحصورة جداً" لجميع المواضيع، بدءاً من "الاختلالات" الاقتصادية العالمية (بسبب الصين مثلاً) ووصولاً إلى الأمن الإلكتروني.صحيح أن أوباما قد يجاهر بأن علاقاته مع أوروبا تشكل "حجر الزاوية" بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية، ولكنه على ما يبدو لا يستطيع تخصيص وقت طويل للاتحاد الأوروبي، مع أن المسؤولين في إدارته يعملون جاهدين لادعاء عكس ذلك. فقد رفض أوباما حضور قمة مقترحة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مدريد، في وقتٍ سابق من هذه السنة. ولم يُخْفِ المسؤولون قلة صبر أوباما خلال قمة السنة الماضية في براغ، حيث اضطر إلى تحمل 27 خطاباً من القادة الأوروبيين الذين أصروا على أن يصورهم الصحافيون مع الرئيس الأميركي الجديد.يشكّل "ملل" الرئيس أوباما صدمة كبرى نظراً إلى العلاقات المكثفة في المجالات الأخرى بين واشنطن وبروكسل، وتكثر انشغالات البعثة الأميركية في الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى، ولا يتوقف الوزراء في حكومة أوباما والمسؤولون وأعضاء الكونغرس ورجال الأعمال عن التواصل مع الاتحاد. كذلك، يسعى الدبلوماسيون الأميركيون بكل قواهم إلى تطوير روابط وثيقة مع البرلمان الأوروبي الذي يزداد قوة. كما أن المفوضين على اتصال دائم بنظرائهم الأميركيين.لكن على أرض الواقع، "أوروبا"، في نظر القادة الأميركيين تساوي حلف "الناتو" الذي يأتي في المرتبة الأولى، ثم القادة الوطنيين، ثم يأتي الاتحاد الأوروبي في المرتبة الأخيرة. فقد تناول مقال صحفي للرئيس أوباما، صدر قبل عقد القمة، موضوع حلف "الناتو" بشكل شبه كامل، بينما اكتفى بذكر الاتحاد الأوروبي بشكل عابر في سطرٍ واحد تحدث فيه عن حاجة الحلف إلى التعاون مع منظمات دولية أخرى.في أذهان الأميركيين، يشكل الاتحاد الأوروبي جوهر الامتداد الاقتصادي لحلف "الناتو"، ويحلم عدد من الأوروبيين بعكس مسار هذه العلاقة، ويعلن كتيب صدر حديثاً عن مجموعة المفكرين الاستراتيجيين في الاتحاد الأوروبي، في معهد الدراسات الأمنية، أن "حلف شمال الأطلسي يجب أن يصبح في نهاية المطاف عنصراً عسكرياً ضمن علاقة استراتيجية أكثر قوة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة". إنه مجرد حلم بعيد عن الواقع لأن "الناتو" يضم أعضاء آخرين لا ينتمون إلى الاتحاد الأوروبي مثل كندا، والنرويج، وتركيا. بالتالي، يرى بعض الأميركيين أن التحالف الهش بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يحتاج إلى عصب أقوى. أكدت ورقة مشتركة أصدرها ثمانية مفكرين استراتيجيين على جهتي الأطلسي، في السنة الماضية، أن الولايات المتحدة تحتاج بشكل طارئ إلى بناء "علاقة استراتيجية" مع الاتحاد الأوروبي، "أهم منظمة في العالم لا تنتمي إليها الولايات المتحدة". تفضل الولايات المتحدة، بصفتها أهم عنصر في حلف "الناتو"، العمل عن طريق التحالف أو التواصل مع الدول الفردية. وبكل صراحة، يناسب هذا الوضع كبار القادة الأوروبيين، إذ ترتكز هيبة ديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل جزئياً على تعاملاتهم الشخصية مع الرئيس الأميركي.بحسب المجال المعني، يسود في أوروبا ميزان قوى غير متساوٍ بين العواصم الوطنية وبروكسل، وداخل الاتحاد الأوروبي، بين مجلس الوزراء والبرلمان. طوال عقود، كلف الاتحاد الأوروبي منظمة حلف "الناتو" وقادة الدول بوضع الاستراتيجية الجغرافية. وعلى الرغم من الطموحات الكبرى على مستوى السياسة الخارجية في معاهدة ليشبونة، لم يتعلم الاتحاد الأوروبي التفكير استناداً إلى العوامل الجيوسياسية، وها قد عادت مشاكل منطقة اليورو الآن لتجذب الأنظار إلى وضعها الداخلي مجدداً. لا عجب إذن في أن الكثير من الأميركيين يشعرون بالانزعاج تجاه الاتحاد الأوروبي.الدرس المستخلص من جورج بوشلكن على جانبي المحيط، تأمل كبار الشخصيات- ويتوقع بعضها- أن يقتدي الرئيس أوباما، خلال النصف الثاني من ولايته، بجورج بوش الذي سعى إلى توثيق تعاونه مع أوروبا، بعد أن ضعف موقعه بسبب حرب العراق. ومع تحول ميزان القوى العالمي وابتعاده عن كفة الغرب، من المفيد الحصول على سلاحين قويين عابرين للأطلسي. ففي زمنٍ تشوبه المشاكل الاقتصادية، أهم ما يمكن أن يفعله الطرفان هو أن يساهما في النمو من خلال تحديد القواعد وإزالة الحواجز التي تعيق الأعمال التجارية.يحتاج الاتحاد الأوروبي، الذي يعمل على تطوير وسائل أكثر قوة للتعامل مع الأزمات العالمية، إلى التحاور مع حلف "الناتو"، لكن غالباً ما تعيق العداوة القائمة بين قبرص (عضو في الاتحاد الأوروبي لكنها خارج حلف شمال الأطلسي) وتركيا (عضو في حلف شمال الأطلسي لكنها خارج الاتحاد الأوروبي) التعاون بين الهيئتين اللتين تتخذان بروكسل مركزاً لهما وتضمان 21 عضواً مشتركاً. حان الوقت كي تتغلب الهيئتان على هذا الوضع السخيف (أو تضعه جانباً على الأقلّ). لا يستطيع حلف "الناتو" القيام بكل شيء بنفسه. في هذه الأيام، يُعتبر الاتحاد الأوروبي المنظمة الأهم على مستوى قضايا عدة مثل أمن الطاقة ونزاهة الإنترنت والجوانب المختلفة لمكافحة الإرهاب. في المقابل، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تخطي هوسه بالإجراءات والبروتوكولات وإلى تحويل القناعات إلى خطوات عملية إذا أراد كسب الاحترام في القمم العالمية. يُفترض أن تساهم هذه الخطوة في إثارة حماسة أوباما.
مقالات
واشنطن ترى أوروبا من منظور «الناتو»... فأين الاتحاد الأوروبي؟
05-12-2010