من يقرأ للدكتور رشيد الخيون، يخيّل إليه أن هذا المؤرخ الجاد، والباحث والمنقّب في التاريخ والتراث لا يمكنه إلا أن يكتب كتباً ثقيلةً لا يقوى على قراءتها إلا المؤرخون والمثقفون، لكنني أعتز بأنني حرضته ليكتب لأول مرة كتاباً فيه شجن من الذكريات والأحاديث وتأريخ لرحلته في السعودية، حتى أن قراءتك للكتاب تذكرك بجلد الرحالة في كتبهم العظيمة... اسم كتابه: عمائم سود بالقصر السعودي- انطباعات شخصية من نجد والحجاز!

الخيون تميز عن بقية الرحالة في كتابه هذا بأنه أضاف مشاهد مرحة، وشاهدَنا نحن السعوديين من زاويا لم نعلم أنها فينا أصلاً لفرط نقدنا لأنفسنا، وهو عتب على أصدقائه السعوديين في بدء الكتاب لأنهم أعطوه صورةً فيها مبالغة نقدية أثناء مجالسته لهم من المثقفين والكتّاب، لكنه حين زار السعودية لأول مرة كتب مئتي صفحة من أطيب الصفحات وأخفها على الروح والعقل.

Ad

كتب عن مشاهداته، زار الدرعية، والجنادرية بطبيعة الحال، والتقى رؤساء التحرير والصحف، وذهب إلى الحجاز بالحافلة متحملاً مشقة السفر ساعات وهو يدون الأماكن التي يمر بها، ويتذكر ما قرأ في كتب التراث والتاريخ عنها، وزار ندوات ثقافية وفعاليات متنوعة ومتعددة، بل لم يوفر حتى اليوميات العادية للسعوديين، مثل المطاعم الشعبية ومقاهي الشيشة والإنصات للشعر الشعبي، وهذه هي الرحلات العظيمة، أن تكون شاملةً لعمق البلد وداخله، بكل ما يحمله من عاداتٍ سلبية أو إيجابية.

كما اهتم بتأمل تاريخ الشيوعيين في السعودية، وكتب صفحاتٍ عن صالح المنصور، المثقف الذي لا يزال يجاهد من أجل إقامة نقابات، ويوزع المنشورات الشيوعية ويضع منشورات شيوعية وكتباً لهم في «شنطة» سيارته لعل آتياً يسرق كتاباً من هذه الكتب ويقرؤه ويستفيد.

كذلك تحدث عن التيارات الدينية والسلفية وعن التشابه بين العراق والسعودية، كما لم ينس «الظاهرة الليبرالية» في الصحافة والإعلام، في المؤلفات، في الروايات، في الجيل الجديد القارئ والباحث، ويتعجب الخيون من إصرار هذا الجيل على الكتابة في الخطوط الحمراء، يقول: «أستغرب، مع الصورة النمطية التي تحملها ذاكرتي عن طريق السماع والقراءة، كيف تمكن كتاب وصحافيون وباحثون وإعلاميون من مواكبة التطور الثقافي، وكيف وصل عدد من هؤلاء إلى حد المنافسة في عواصم الحداثة، وكيف تمكنوا من فهم الدين خارج التشدد، وهم يعيشون في واحة التشدد، وحولهم بيوت الدرعية مازالت قائمة، وهل المجتمع السعودي مغلق إلى هذا الحد بحيث لا تهتز الصورة بذاكرتي».

ذهب إلى الحجاز مختاراً بحافلة، لم ينصت لتحذير الأصدقاء من أن الرحلة شاقة وطويلة، يقول: «حذرني أكثر من صديقٍ ألا أسافر من الرياض إلى جدة عبر الطريق البري، فطول الطريق حوالي ألف كيلومتر، يستغرق الوقت اثنتي عشرة ساعة، ولما أخبرت الصديق تركي السديري قال لي: احذرك إنها مغامرة! فالطيران متوافر ولا داعي للمتاعب! قلت له: إذا انعدم الترحال عبر البر ستنقطع الكتابة عن الأمكنة، أو ما يُعرف بأدب الرحلات، والفريد تيسجر (ت:2003) لم يعبر الربع الخالي إلا على ظهر جمل، ليكتب كتبه الرائعة عن رحلاته».

الممتع في رحلة الخيون أنه دخل في الصحراء بكل تاريخها، وأثناء سير الحافلة يصف المشهد: «بدأ صوت القرآن وتفسيره وإعرابه عبر برنامجٍ متواصل، من آلة تسجيل الحافلة، إلا أن السائق المصري بعد قطع نصف الطريق، والابتعاد عن مراكز المدن التي نمر بها أخذ يفتح الأغاني بصوتٍ هادئ جداً، كنتُ منسجماً كثيراً مع ترتيل القرآن وسماع التفسير، فالمكان يوحي بالانسجام، أو هي الذاكرة وما اختزنت من اقترانٍ بين الصحراء وبداية الإسلام، فعلى العكس وجدتُ نفسي غير منسجمٍ مع الموسيقى والأغاني التي يبثها السائق بين الحين والآخر، ويعلو صوتها ويخفض».

الخيون، كتب رحلته، ولم تخل من صور كاريكاتورية عن المجتمع، وبخاصةٍ حين دخوله دهاليز المجتمع، وجلوسه مع أفراده في الأماكن الشعبية، ومشاركته لهم طعامهم، كان الخيون في رحلته رحالةً بالإضافة إلى كونه من المؤرخين والباحثين العرب المميزين... إنها تجربة تستحق القراءة!

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة