في عام 1991 وفي زاويته وقت للكتابة، كتب الشاعر قاسم حداد عن تجربة سماء عيسى الشعرية. أقول كتب وعن حق بأن «الجملة الصغيرة المكتنزة، المترفة بصريخ الروح، تعتمد صناعة المشهد، إنها صور تنهض من بلاغة المشهد الشعري. فالشاعر لا يعبأ بالتفاصيل إلا نادراً، لغته ليست جزئية، إنها في كلية المشهد».

Ad

* * *

قلت سابقاً إن مقاربة موضوع الموت عند سماء عيسى تتخذ أشكالاً مختلفة، واحدة من هذه المقاربات التي في ظني تكاد تكون المنشأ الأصلي في تجربته، هو الايروس بمعناه الفلسفي العميق. ففي جزء كبير من تجربته الشعرية، هناك ذلك التجاذب الغامض والآسر بين الحب والموت، بحيث يأخذ الموت شكلاً آخر للحياة، وإشراقة قريبة من فعل التعبد. أيتها المرأة لم لا تأخذين القمر لفرجك الشهي

بعض من قطرات دمك ستحيي عروقي الموتى. ويظهر هذا أحياناً عبر تذاوت حتى مع شخصيات تاريخية، خصوصاً في مجموعة «دم العاشق».

أنا الساكن

بين الحب والموت

كموجة يتيمة دحرجها

الملاك

إلى المنفى

أو مقطع كهذا

وبحثت عن خيط

يصل بين

لحظة الحب

ولحظة الموت

وفي قصيدة «عزّان بن تميم الخروصي» يكتب:

أغلق الهجير

أبوابنا

وبكتنا

حقول

وينابيع

تركتنا في العطش

ضمتنا إليها

شجرة جرداء،

وروتنا

امرأة،

بمياه الذكرى.

إن المقطع السابق المرتبط بالهجير والعطش والمقطع اللاحق المرتبط بالمرأة ومياه الذكرى هما بالضبط يشكلان فضاء تأويلياً فيه من الثراء والعمق في تلك المنطقة الايروسية التي اعنيها، تلك العتبة الممتزجة بالحب والموت.

* * *

في مجموعته الشعرية «درب التبانة» يقارب سماء عالمه الأثير، بلغة خافتة، شفافة لتقترب الكتابة أحياناً إلى نوع من المناجاة الروحية الخالصة، وهو يتناول عالماً بعيداً ومنسياً فيه كثافة الصمت والغياب:

متى أقذف إلى الصحراء

ولا أعود منها

ولا تسمع صراخي السماء

ولا تدل عليّ نار

لكن حينما تتغير نبرة الذات يصبح للأشياء القديمة والمنسية حضور مميز

مسحاتك القديمة

معلقة على الأشجار

من الآبار يطلع صوتك

مظلماً وحزيناً

دون أن يصل إلى الأرض

هنا نجد عالماً من الحنين والطفولة المفقودة، طفولة الموت، عبر استعادة تكاد تكون مستحيلة، لأن هذا العالم أليم ومرير بسبب انشطار الكائن، إذ ينطفئ في العتمة الجمال. هذا الجمال الذاوي أصلاً والذي كان ذات مرة هدية من الرب. في هذه المجموعة يلجأ الشاعر إلى استخدام طرائق سردية للتوصيف الشعري فتصبح مساحة الذاكرة حاضرة على نحو أكبر كدليل يقوده إلى مناطق قصية، معتمة، فتلعب الذاكرة دور انتقاء الأمكنة واختزال الأحداث. في قصيدته الأخيرة «موت غض» يذهب سماء عيسى إلى الاقتصاد في اللغة، إنها كتابة أشبه بالمقطعات أو قصيدة الومضة. هكذا يمكن أن نجد في تجربة سماء عيسى الشعرية، إحالات عديدة وغنية، إلى الموت بمعناه الوجودي. بعض هذه الإحالات تسترفد من الذنب الخطيئة، الحب، الغياب، الزمن، الخ... وفي ظني أن هذه الثيمات تحتاج إلى قراءة موسعة وتفصيلية. إنه لمن الشيق تتبع بعض الثيمات الأساسية عند الشعراء العمانيين، عبر قراءات تتناول ملمحاً معيناً في هذه التجارب، فهناك ثيمة الترحال كمرتكز للتجربة الشعرية، التفاصيل وعلاقتها بالفقدان أو حس الاغتراب الحاد والطفولة الجارحة وعلاقة ذلك باللغة، أو حالات السأم والحيرة والحنين المفقود، لأنني أعتقد أن القصيدة تقول ما تريد هي أن تقوله، لكن مساحتها السرية الغامضة أوسع مما نظن.