ارتفعت حدة النقاش في المقهى، واختلفت آراء الجالسين حول الطاولة الكبيرة فيه، واعتلى المنطق صراخ غير مفهوم وأصوات تبربر بنغمات عصبية غاضبة، ولم يكن هناك سبب واضح يكشف عن سر الخلاف الذي ربما يكون كالعادة حول السياسات المختلفة أو التعصب الديني أو المذهبي الطائفي أو سرقة المال العام أو أي أمر اجتماعي، أيّاً كان الخلاف غير المفهوم بسبب اختلاط الأصوات والجمل المنهوشة أطرافها ما بين المختلفين حول حوار ميت.

Ad

النقاش الذي دار ما بين معارف وأصدقاء ربما كانوا هكذا، يبدو كأنه حرب كلامية وإن كان فقط مجرد نقاش على الطريقة العربية.

وفجأة ارتفع من مكان ما في المقهى صوت أم كلثوم يترنم برائعتها «يا اللي كان يشجيك أنيني»، وبدأت معه مذراة السحر ترش ذرات سحرها وسطوتها على الغاضبين، وتطوي العنف بغلالة الصوت المشحون بالشجن والحنين المطوق بكبرياء الألم النازف حبا وعشقا من قلب ناطف بالهوى وعذاباته، حتى تصل إلى المدى الذي تقول فيه: عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك، وحينها سيطر الصوت على كل من في المقهى باختلافهم واختلافاتهم، ولف أصواتهم المتلاشية تدريجيا مع طوفان صوت أم كلثوم فوق جيشان عاطفة الجميع باختلاف مذاهبهم وطبائعهم، ومن ثم ساد المقهى السلام والهدوء والراحة حين حلقت الأرواح في سموات الفن الجميل الذي انضوى الجميع تحت رايته.

فهل هناك عالم أبهى وأروع من عالم الفن؟

لا أظن أن هناك أي شيء أعظم وأكثر قيمة وأكبر مفعول في تأثيره على البشر، وقدرته الهائلة على ضمهم تحت رايته، وتوحيدهم تحت لوائه بمختلف أجناسهم وطوائفهم، وبمذاهب أديانهم المختلفة، وسياساتهم، وعقائدهم، وانتماءاتهم، كلها تذوب وتنسى تحت راية الفن، فلا شيء مثل الفن قادر على ضم الناس بمختلف أجناسهم تحت مظلته، صحيح قد يقول قائل إن الأديان والعقائد قادرة على القيام بمثل هذا الدور، لكنها مختلفة وكل دين وكل عقيدة لهما من يتبعهما، ومن لا يتبعهما، ولا توجد عقيدة واحدة تضم وتوحد جميع البشر تحت لوائها.

ولكن نجد أن صوت أم كلثوم مثلاً يطرب له المسلم والمسيحي، والعلماني، والشيعي، والسني، واليهودي، باختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم، وفي الحرب الأهلية اللبنانية التي انقسم فيها لبنان إلى مناطق نفوذ مختلفة تبعاً للانتماءات والمذاهب الطائفية، ومع هذا بقي صوت فيروز يطرب الجميع، وهو بالتالي بات الممثل للبنان والرابط بين مكوناته حتى إن لم يدرك ذلك.

وهكذا نجد صوتاً مثل مايكل جاكسون، وألفيس بريسلي، بافروتي، البيتلز، وأعمال رودان ومايكل أنجلو وبيكاسو، ومونية، وسلفادور دالي، وشعر أراجون والإياذة هميروس، وروايات كافكا، وجميس جويس، وغيرهم، هي الرابط الذي يجمع بين الأجناس التي عجزت السياسة والعقائد والانتماءات عن توحيدها وطيّها تحت عباءاتها، واستطاع الفن العظيم الخالد وحده توحيدها وضمها من حوله، وربما تكون معظم حالات الزواج والحب قد تمت بتأثير الأغاني وكلماتها التي عكست كل مشاعر الوجد واشتعال الغرام وآهات الوله في قلوب العاشقين، وعكست كل ما يشعرون به من دون أن يملكوا موهبة التعبير عنه كما عبّرت عنه الأغنية.

لا أتصور كيف تكون الدنيا من غير أن يكون فيها فن عظيم يطوي الناس ويلفّهم بالحب، ويطرد عنهم منطق العنف والكراهية حتى إن كانت اللحظات تمر مثل النسمة لتفرح القلب والروح بلمساتها الحانية.