هل حرب لبنان وإسرائيل محتمة؟
كما في الربيع الماضي، يكثر اليوم الكلام عن حرب على الأراضي اللبنانية بين إسرائيل و"حزب الله"، لكن هذا الكلام لا يقتصر هذه المرة على مناقشة التوازن العسكري بين "حزب الله" وإسرائيل، بل يتعداه إلى الإقرار بتدهور المناخين السياسي والعسكري.
لا شك في أن لصِدام الثالث من أغسطس على الحدود بين الجيش اللبناني وقوات الدفاع الإسرائيلية تداعيات عسكرية مهمة، إذ يُظهر هذا الصدام استعداد القوات الإسرائيلية للرد على أي حادثة عند الحدود، ويكشف احتمال تورط الجيش اللبناني والدولة اللبنانية مباشرةً في أي صراع مستقبلي بين إسرائيل و"حزب الله". علاوة على ذلك، وقعت هذه الحادثة في إطار التحضيرات الجدية التي يقوم بها "حزب الله" وإسرائيل استعداداً للحرب. صحيح نعرف جميعنا أنه ليس هناك أحد من اللاعبين المعنيين يريد الحرب، لكن الهدوء النسبي الذي شهدته الحدود اللبنانية-الإسرائيلية خلال السنوات الأربع الماضية يزداد هشاشة.
اللاعبونتبدو الصورة العسكرية في جنوب لبنان معقدة، وتزداد تعقيداً. يؤدي أربعة لاعبين دوراً في الوضع على الحدود: "حزب الله" المدعوم من إيران، وإسرائيل، والجيش اللبناني، وقوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل). وينتج عن كل ذلك مشهد من التفاعلات المعقدة في جنوب لبنان بحد ذاته وبين إسرائيل واللاعبين الآخرين في لبنان.لا شك في أن "حزب الله" يشكل القوة المسيطرة عسكرياً على جنوب لبنان. فمقارنةً ببنية قوته المتينة في الجنوب، التي تشمل وحدات وعدداً كبيراً من المقاتلين والأسلحة، تبدو قدرات الجيش اللبنانية و"اليونيفيل" ضئيلة. لكن الأوضاع السياسية الداخلية اللبنانية والمخاوف من احتمال إقدام إسرائيل على عمل عسكري دفعت "حزب الله" إلى الإحجام عن إظهار قدراته هذه. تحتل قوات "حزب الله" مواقع في القرى وفي ما تدعوه قوات الدفاع الإسرائيلية "محميات طبيعية" (مناطق وعرة ومحصّنة). وتقع هذه المناطق على مقربة من الحدود الإسرائيلية.يعتبر الجيش الإسرائيلي أن لبنان مسؤول من القيادة الشمالية في قوات الدفاع الإسرائيلية. في الأحوال العادية، تبقي إسرائيل على حدودها مع لبنان فرقة دفاعية (الحادية والتسعين) مع لواءين مختلطين (الـ300 والـ769). تشمل هذه الفرقة مزيجاً من الوحدات الناشطة ووحدات الاحتياط، وغالباً ما تُدعَّم بالمدفعية والدبابات والمشاة والتشكيلات الهندسية. وقعت حادثة الثالث من أغسطس في قطاع اللواء الـ(769).ويبقي الجيش اللبناني ثلاثة ألوية من المشاة في الجنوب في مواجهة إسرائيل، ويخطط لنشر لواء رابع، حسبما تشير التقارير، لكن إسرائيل تعتقد أن "حزب الله" يؤثر في بعض عناصر الجيش اللبناني في الجنوب، بما فيها اللواء الحادي عشر الذي تورط في الحادثة.أما قوات حفظ السلام الدولية، فتنشر بين 12 و13 ألف جندي جنوب نهر الليطاني وجنوب سهل البقاع. ويفيد موقع "اليونيفيل" على الإنترنت بأن مهامها الأكثر أهمية تشمل مساعدة الجيش اللبناني على اتخاذ خطوات لإنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من الأسلحة والمسلحين غير التابعين للحكومة اللبنانية أو قوات "اليونيفيل" المنتشرة في المنطقة، لكن هذه القوات واجهت صعوبات كبيرة في تنفيذ تفويضها هذا. ويعود ذلك في جزء منه إلى المضايقة التي تعرضت لها من السكان المحليين والتي تهدف، على ما يبدو، إلى الحد من نشاط "اليونيفيل". ومن الأسباب الأخرى التي زادت مهمة "اليونيفيل" صعوبةً عجزها عن تفتيش المنازل اللبنانية بحثاً عن أسلحة محظورة. فلا تتمتع قوات "اليونيفيل" بالقدرة على منع "حزب الله" من استخدام القوة المسلحة.النشاط العسكري على الحدودبقيت الحدود الإسرائيلية اللبنانية هادئة نسبياً منذ حرب عام 2006، مع أن مستوى ثابتاً من النشاط العسكري تواصل على جانبي الحدود. فحصل تصادم في مناسبات عدة. على سبيل المثال، تشير بيانات قوات الدفاع الإسرائيلية إلى أن عام 2009 وحده شهد خمسة حوادث شملت إطلاق صواريخ على إسرائيل، فضلاً عن إحدى عشرة حادثة غير محددة من "النشاط الإرهابي". كذلك تحدثت القوات الإسرائيلية عن ارتفاع في عدد الحالات التي صوب فيها عناصر الجيش اللبناني سلاحهم ضد الدوريات الإسرائيلية.منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في عام 2000، تسابقت قوات الدفاع الإسرائيلية و"حزب الله" إلى السيطرة على المنطقة الحدودية. فيراقب هذان الفريقان نشاط أحدهما الآخر عن كثب. وينطبق الأمر عينه على قوات الدفاع الإسرائيلية والجيش اللبناني. يسعى "حزب الله" إلى توسيع سيطرته جنوباً وصولاً إلى الحدود. ولتحقيق هذه الغاية، يراقب نشاط الجيش الإسرائيلي من مواقع على الحدود. ويُعتقد أنه يستخدم أيضاً السكان المحليين لجمع المعلومات.كذلك أفادت الصحف الإسرائيلية بأن "حزب الله" يحفر على الأرجح تحت الحدود استعداداً للهجوم. وفي حال نجح "حزب الله" في تحقيق مقدار معين من حرية التصرف على الحدود، فسيصبح في وضع أفضل يمكنه من تنفيذ عمليات داخل إسرائيل، فضلاً عن التصدي لأي اعتداءات إسرائيلية.تتنافس قوات الدفاع الإسرائيلية مع "حزب الله" وتسعى إلى ضبط المنطقة الممتدة على طول الحدود وتأمينها. لذلك تسعى من بين أمور أخرى إلى الحفاظ على قدرتها على مراقبة الأراضي داخل لبنان من دون أي رادع أو عائق.قبل عام 2006، فقدت إسرائيل كل سيطرة لها على الحدود، وصارت قوات "حزب الله" تعمل بحرية نسبية على طولها، مخترقةً إياها من حين إلى آخر لتنفذ مهمات استطلاعية أو عمليات عسكرية.تعتمد قوات الدفاع الإسرائيلية أنواعاً عدة من النشاطات على طول الحدود، غايتها الحد من حرية "حزب الله" العسكرية. وتشمل هذه النشاطات التخلص من كل ما يعوق عمليات المراقبة، كما حدث في الثالث من أغسطس، وتسيير دوريات من الفرقة الحادية والتسعين، وتأكيد وجودها في "الجيوب" التي تفصل بين الحدود الدولية أو الخط الأزرق والسياج الأمنية الإسرائيلي، وإنشاء الكمائن، وتنفيذ مراقبة جوية وعمليات استطلاع. تهدف هذه الخطوات إلى إبقاء "حزب الله" بعيداً والحد من قدرته على العمل قرب الحدود. عزز اشتباك الجيش اللبناني مع عناصر من قوات الدفاع الإسرائيلية في الثالث من أغسطس جهود "حزب الله"، سواء كان ذلك متعمداً أو لا. فكان الجيش الإسرائيلي يعمل على تأمين جهته من الحدود والتخلص من عوائق تحد من قدرته على رؤية الأراضي اللبنانية وتشكل غطاء لأي عمليات محتملة قد ينفذها "حزب الله"، لكن سلوك الجيش اللبناني أعاق مباشرة هاتين الخطوتين.تداعيات عسكريةكانت قوات الدفاع الإسرائيلية مستعدة للرد على الصدام مع الجيش اللبناني بقوة كبيرة، شملت الدبابات والمدفعية والمروحيات العسكرية. كان رد فعل الجنود الإسرائيليين على الأرض سريعاً، مما يشير إلى مستوى عالٍ من الاستعداد للتصدي للأعمال العدائية. صحيح أن الجيش الإسرائيلي ردّ بقوة، إلا أنه مارس أيضاً ضبط النفس، حاصراً جهوده بمنطقة التصادم وعناصر الجيش اللبناني المعنيين فيه مباشرة، بما في ذلك مقر الكتيبة اللبنانية في المنطقة.وقد أكدت هذه الحادثة أن القوات الإسرائيلية لن تتردد في ضرب قوات الحكومة اللبنانية، إذا استُفزت.يُظهر قرار قوات الجيش اللبناني المحلية الاشتباك مع القوات الإسرائيلية أن بعض وحدات الجيش اللبناني في الجنوب ستتصدى لأي عمليات إسرائيلية مستقبلية في لبنان. مع اندلاع هذه الاشتباكات، حاول مسؤولون أرفع شأناً في الجيش اللبناني ضبط الوضع. فأفادت التقارير بأن الجيش اللبناني أخلى مواقع له في بعض المناطق، ما يشير إلى تخوف اللبنانيين من ضربة إسرائيلية أقوى. على الرغم من ذلك، اعتبرت قيادة الجيش اللبناني تصرف جنودها دفاعاً عن سيادة الأراضي اللبنانية، مثنية على بطولة مَن قُتلوا في هذه الحادثة.وفي الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في الناقورة في لبنان في الرابع من أغسطس (بين "اليونيفيل" والجيش اللبناني والقوات الإسرائيلية) لمعالجة الوضع، أعلن ممثل الجيش اللبناني، حسبما أفادت التقارير، أن الجيش سيُقاوم أي انتهاك للسيادة اللبنانية، ولكن حتى لو كان هذا الموقف مجرد كلام، فإن التصريحات والثناء تشجعان القادة المحلية على التصرف وفق ما يرونه مناسباً.بعد اشتباكات الثالث من أغسطس، ستبقى العلاقات متوترة بين قوات الدفاع الإسرائيلية والجيش اللبناني، وخصوصاً على طول الحدود. فمن وجهة نظرة القوات الإسرائيلية، شكل تصرف الجيش اللبناني كميناً، والدليل على ذلك أن الجنديين اللذين ماتا كانا على بعد نحو مئتي متر من موقع قطع الأشجار، وقد قُتلا برصاص قناص. تتخوف القوات الإسرائيلية من "استفزازات" الجيش اللبناني على طول الحدود. وستكون مستعدة للرد بقوة كبيرة في حال حدثت أي صدامات أخرى. ولا شك في أن هذا التفاعل يزيد من خطر حصول اشتباكات إضافية أكثر حدة وضراوة.علاوة على ذلك، تعود شكوك القوات الإسرائيلية حول علاقة "حزب الله" بالجيش اللبناني إلى ما قبل الثالث من أغسطس. ولا شك في أن هذه الشكوك لن تتبدد الآن. صحيح أن ما من دليل على تورط "حزب الله"، إلا أن هذه الحادثة خدمت مصالحه. فضلاً عن ذلك، كان ممثلو الحزب الإعلاميون حاضرين. وتعتقد القوات الإسرائيلية أن اللواء اللبناني المتورط في الحادثة مرتبط بـ"حزب الله".وكما هي الحال دوماً في جنوب لبنان، فقد سلط هذا الصدام الضوء على قدرات قوات "اليونيفيل" المحدودة جداً. صحيح أن هذه القوات لعبت دوراً ما في تهدئة الأوضاع، لكن وقف القتال يعود إلى قرارات اتخذها القادة الإسرائيليون والجيش اللبناني. فلا تملك قوات "اليونيفيل" سبلاً إلى الحؤول دون نشوء تصادم أو ضبطه ما إن يبدأ، غير مناشدة الأطراف المعنية.يحاول "حزب الله" استغلال هذه الحادثة ليقوي علاقاته بالجيش اللبناني. فقد سارع أمين عام الحزب، حسن نصر الله، إلى الإشارة في الخطاب، الذي أدلى به في اليوم عينه، إلى التزام "حزب الله" الدفاع عن لبنان وإلى استعداده لمؤازرة الجيش اللبناني. يجب ألا نعتبر هذا التصريح مجرد كلام تافه، فهو مؤشر آخر على أن "حزب الله" ينوي حمل الجيش اللبناني على القتال إلى جانبه، في حال تجدد الصراع مع إسرائيل.نظرة إلى المستقبللا شك في أن حادثة الثالث من أغسطس سيكون لها تداعيات بعيدة الأمد. ففضلاً عن تسميم العلاقة بين قوات الدفاع الإسرائيلية والجيش اللبناني، صب هذا الاشتباك الزيت على نار وضع يتزايد خطورة. ويشير رد فعل إسرائيل السريع والقوي إلى أن القوات الإسرائيلية مستعدة للتصرف بسرعة في حال حدث أي طارئ على الحدود. ولا شك في أن تنامي قوة "حزب الله" العسكرية وقربه من الحدود يزيدان من احتمال وقوع حوادث مماثلة، إما مصادفة وإما عمداً. ويزداد هذا الاحتمال أيضاً مع تبني الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية موقفاً أكثر عدائية.وكما في الربيع الماضي، يكثر اليوم الكلام عن حرب، لكن هذا الكلام لا يقتصر هذه المرة على مناقشة التوازن العسكري بين "حزب الله" وإسرائيل، بل يتعداه إلى الإقرار بتدهور المناخ السياسي والعسكري. حتى إن الاستقرار النسبي الذي تلا الحرب السابقة يزداد هشاشة يوماً بعد يوم.* جيفري وايت | Jeffrey White ، أستاذ شؤون الدفاع في "معهد واشنطن"، ومتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية في بلاد الشام، العراق وإيران.