في الصالة جلس مينار على أريكة قديمة مصنوعة من جلد أسود:
- عليك بالانتظار قليلاً أيها السيد.قالت المرأة، الغريبة، ثم اختفت في مدخل يؤدي على ما يبدو إلى غرفة جانبية.ظل مينار حائراً. كان يتوقع استقبالاً أشبه باحتفال صغير. ظل هادئاً، ينظر إلى الصالة وقلبه يخفق باضطراب. كانت الصالة عادية تماماً. سجادة حمراء منقوشة بأزهارٍ بيضاء وسوداء، ثلاث لوحات معلقة على الحائط، واحدة لمنظر طبيعي مرسومة بمنظور كلاسيكي، والأخرى تظهر فيها قلعة قديمة وسماء زرقاء. في الزاوية الأخرى، جهاز للموسيقى، الستائر شفافة بلون الكرز، بعض المزهريات، وطاولة عليها مجلات نسائية حديثة. فوق الجدار كانت معلقة تلك اللوحة الثالثة التي لم تظهر له بوضوح تام بسبب الضوء الكتيم. وقف مينار واتجه إليها بفضول، وفجأة ظهرت له على نحو واضح:- ماذا تفعل لوحة أدوارد مونك هنا؟تساءل مينار. كانت الصرخة الشهيرة معلقة هناك وحيدة، أبدية، كأنها صرخة حقيقية معلقة بين السماء والأرض.- آه يا ميناري، يا وعل حياتي، لقد عُدتَ أخيراً. كنت أحدس هذا منذ زمن بعيد.هكذا فجأة قذفت المرأة هذه الكلمات في وجه مينار خارجة من باب جانبي. ارتبك مينار قليلاً، ونظر اليها، أحس كأن أمطاراً حقيقية تغسله من الداخل. ها هي أورسولا أخيراً، لؤلؤة حياته، بلقيسه الضائعة، أحس مينار بأن عناقهما الصاخب يخلو من تلك الانفجارات الكوكبية الصغيرة التي كان قد توقعها. كانت أورسولا ترتدي فستاناً أشبه بألوان قوس قزح كامل الهيئة. شعر مينار بضعف مؤقت في ركبتيه، بفعل هذا الجمال الصارخ الذي أيقظ روحه، من جديد، هنا والآن. جلسا على الأريكة متشابكين. إنهما الآن رجل وامرأة حقيقيان. شعر مينار تلك الليلة، كأنه يجتاز وديان طفولته البعيدة، متردداً، سعيداً، خائفاً، غارقاً، ناسياً، متذكراً، قوياً، سالباً، مسلوباً، نائماً، يقظاً، أبدياً، فانيا، آخذاً مأخوذاً.- كل هذا كان بفعل جمال كان ضائعاً ذات يوم. قال مينار لنفسه.كانت زجاجات النبيذ والسجائر الملفوفة ذات حضور أخاذ. وكانت روحه مسحوبة الآن بتلك الكلمات التي يتذكرها والتي أشاعت انتعاشاً خاصاً في جسده من صوت الليدي هولداي. سألها مينار ان كانت المرأة، العجوز التي رآها قبل قليل ثم اختفت، قريبتها أو خادمتها.- أية امرأة، يا بؤبؤي السعيد.ثم أطلقت ضحكة أضاءت الصالة كلها:- المرأة التي فتحت الباب... قاطعته أورسولا بضحكة أخرى، ثم أكملت:- أووه يا حياتي، لا يبدو انك تغيرت أبداً. إن مخيلتك منحرفة كالمعتاد، وأوهامك كما هي، رغم مرور سنوات كثيرة، أوَ حسبت تسكن هنا امرأة غيري، يا لطف حياتي؟ لقد أسقط في يدهِ. ظل مينار حائراً، مشوشاً، شعر كأن ذاكرته مليئة بثقوب سوداء. وان جسمه بدأ يثقل وان روحه افتقدت الخفة، التي كانت تنقذه في مواقف كهذه. أراد أن يحدثها عن حياته، عن عمره كلّه، كما كان يفعل منذ سنوات بعيدة، وان يستمع إليها، ويتعرف على أحداث حياتها منذ أن افترقا، عندما باغتته أورسولا:- أمازلت تفكر، يا حبي، ليس هذا الوقت هو الوقت المناسب.ليست هذه الليلة سوى للصمت، للموسيقى والمداعبات اللانهائية، أنصت إلى الليل يا حبي ودعْ الأحاديث جانباً الآن. غداً يوم طويل آخر.«مقطع من عمل سردي طويل»
توابل
طيف اورسولا 2
02-03-2011