أذكر أنني حين قرأت إحدى قصصي القصيرة، وقدمت محاضرة عام 2009، لجمهور مهرجان برلين العالمي للآداب، عن الأدب في الكويت، وبعد انتهاء المحاضرة، اقترب مني شاب مع صديقته. وبلطف ظاهر بادرتني الفتاة بلغة عربية فصحى: «أنا أدرس الأدب العربي، وأحب قراءة الروايات». أشرت إليها مرحباً، فقالت: «لي سؤال هل يمكنك الإجابة عنه؟»، ابتسمت قائلاً: «إذا كنتُ أعرف الإجابة».

Ad

بهدوء انبعث صوت الفتاة: «أنت من الكويت، والكويت دولة نفطية صغيرة المساحة، سكانها أغنياء، لا يدفعون ضرائب للدولة، وهم يسكنون في قصور ولديهم خدم، والتعليم والطبابة والسكن بالمجان».

كنتُ أتابعها في كلماتها، وقد خمّنت مرسى سؤالها، أكملت تقول: «إذا كان لدى المواطن الكويتي كل هذا، وهو يستطيع السفر إلى أي مكان يشاء، فهل معنى ذلك أن أفراد المجتمع الكويتي سعداء؟». التقت نظراتنا، فعبر وجهها طيف ابتسامة، وهي تقول: «ظروفكم الحياتية رائعة، فما الذي ينغص عليكم عيشكم؟».

راحت وصديقها ينظران إليَّ لسماع ردّي. فسألتها: «لو تهيأ لك طلب مبلغ من المال يأتيك فوراً فكم يكون؟». وكما لو أنها جهّزت إجابتها سابقاً قالت: «مليون يورو». مرَّ صمت عابر بيننا، قبل أن أقول لها: «هل تعتقدين أن المليون سيمنحك السعادة، والرضا عن النفس؟».

«أكيد»، أجابتني وقد لوّح البشر وجهها، ولأنني بقيت أنظر إليها، تضعضت نبرتها قليلاً وهي تستدرك قائلة: «مؤكد أن المليون سيحل مشاكلي، لكن الرضا عن النفس أمر صعب التحقق».

جملة محدثتي الأخيرة فتحت حواراً طويلاً بيننا، وكان أن اتفقنا في نهاية جلستنا على أن المال أعجز بكثير عن صنع السعادة، وأنه لا وجود لمعنى محدد للسعادة على أرض الواقع، وأن ضغوطات الحياة، الاجتماعية والعملية والاقتصادية، تأتي على الغني مثلما تأتي على الفقير، وهي قادرة على جعل أجمل القصور يبدو أضيق من قفص.

ربما شكّلت العلاقات الاجتماعية، وتحديداً علاقة الرجل بالمرأة، تحت سقف الزوجية أو بعيداً عنه، العنصر الأهم في الدخول إلى بستان السعادة. إضافة إلى رضا الشخص عن حياته العملية، ومدى تطابقها مع طموحه، وأخيراً بذل المحاولة المضنية للتكيف مع دوامة الواقع المعيشي المتغير والصعب والمعقد، في زمن أصبح يشار فيه إلى العالم بوصفه قرية كونية.

قد يكون صحيحاً أن المواطن الكويتي في بحبوحة من العيش، لكنه صحيح أيضاً أن هذا المواطن يعاني مشاكله الخاصة، وينطحن بتفاصيلها اليومية ووجعها، كما هو الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا يأتي مرتبطاً ومتداخلاً مع عموم الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. فلا يمكن لأي إنسان أن يعيش معزولاً عن محيطه الصغير والكبير.

المراقب لعموم مسلك المواطن الكويتي، والباحث في الوضع الاجتماعي، يرى بوضوح أن الهم الاجتماعي والقلق بدرجاته وألوانه، جزء أساسي في حياة هذا الإنسان. وأن المال قد يكون عنصراً مهماً في تأمين سبل العيش المتمناة، لكنه أعجز بكثير عن الاتيان بظلال سعادة تلوح على البعد!