إلياس خوري وحكاية مليئة بالثقوب
لا تبدو الشخوص في رواية إلياس خوري «رحلة غاندي الصغير» تتحدث عن الحرب، بل هي تعيشها أو أن الحرب هي التي تحكي، تحكي موتها وحياتها، أوهامها وحقائقها. كتابة منشطرة هي كتابة إلياس خوري لأنها كتابة عن وفي هذا المعيش الدامي بعد حرب أهلية عنيفة. ما يُقال هنا لا يمكن أن يُقال في مكان آخر. ليس المكان استعارة رمزية للثبات واليقين بل محرقة حقيقية تنفجر في وجدان ساكنيه. فالمكان بيروت يتحرك، يسافر، يتحول ويستنسخ نفسه باستمرار. هذا المفهوم الملتبس للمكان يفتح زوايا نظر وتأمّلات عديدة، أن المكان كما هو شأن اللغة لم يعد محايداً، بل متورطاً منذ البدء، أي منذ بدء الكلام:
«بيروت هي التي تسافر، تبقى في مكانكوتسافر، فعوض أن تسافر أنت تسافر المدينةمن سويسرا الشرق إلى هونغ كونغ إلى سايغون،بقينا في مكاننا والعالم هو الذي برم حولنا» لذلك لا يوجد بطل في كتابة إلياس خوري. ليس البطل سوى وهم وخرافة بينما في المقابل يُصار إلى تصعيد المكان والزمان إلى حدود البطولة.تنفتح الرواية على حكايات تنسج نفسها، حكاية تتوالد عن حكاية أخرى. خلية من الحكايات الناقصة المخترقة بزمن عنيف. وهذا التصدع لا يصيب الأمكنة والذوات فحسب، بل يصيب الشكل الروائي نفسه. يتفكّك ليعيد خلق نفسه عبر إحداثيات تعيد للشكل الروائي توازناً من نوع ما. المؤلف نفسه وإن بشكل جزئي، جزء من هذه اللعبة حيث يخترق نسيج الرواية ليحاور شخوصها وأمكنتها. ثمة متوالية تتكرر في الرواية بشكل لافت، تتحدث أليس «الراوي الأساس» في الرواية عن موت عبدالكريم حصن الأحمدي الملقب بغاندي الصغير، هكذا إذن يبدأ إلياس خوري روايته من نقطة مفارقة، أي الموت. وعندما تنهض الشخوص من موتها، من غيابها فإنما تفعل ذلك كما لو أنها تتحايل على هذا الغياب في محاولة لإشراك الموت كطرف في حياتها.لن تجد في رحلة غاندي الصغير سوى حكايات أناس هامشيين، حكايات مليئة بالرعب والفانتازيا، من حكاية غاندي -الإسكافي- الذي يرى وجوه مدينة بيروت المتعددة عبر مرايا الأحذية، إلى «أليس» المومس وعلاقتها المتعددة البالغة التعقيد، إلى القسيس والمستر دايفز وشخصيات أخرى تدخل الرواية وتتحرك في قلب الحياة.يكتب إلياس خوري عن هؤلاء ويكتشف أن حكاياتهم وأحاديثهم ناقصة، متغيرة، ملتبسة، يتشظى الكلام وينبتر، وينزاح الوهم محل الحقيقة أو العكس. «أحاول أن أتخيل ما حدث فأكتشف ثقوباً في الحكاية، كل الحكايات ملآنة بالثقوب، لم نعد نعرف أن نروي، لم نعد نعرف شيئاً». وإذا كانت كتابة إلياس خوري مرتبطة بالمحكي، أي بالكلام فلأن اللغة لم تعد مقدسة وذات مرجعية ماضوية. تخترق الكتابة ذاكرة اللغة وتُسائلها. لذلك ينبني فضاء الرواية ضمن هذا التساوق الحاد والعنيف مع اللغة المحكية، وتعدد مستويات السرد وحدوث إبدالات لموقع الراوي، ذلك لأن الحاضر لا يمكن قوله إلا بكلام يحمل شحنة المعيش ويتموضع في قوة الفعل الإنساني الخلاق بعيداً عن أي تبشيرية.وهناك بؤرة محورية يدور حولها الكلام هي شخصية غاندي الصغير، إذ لا يروي الرواة سوى القصة نفسها، فيتقاطع الكلام مع هذه الحياة الذاهبة إلى عبثية الموت. رحلة غاندي الصغير هي رواية مدينة ترفض الموت، تتداخل فيها بنى سردية وطرائق تعبير تذهب صوب الحلم والهذيان، عالم قلق عن حيوات ومصائر ممزقة. ينكشف الواقع عن أحلام بالغة الخصوبة والمأساوية في آن واحد، وتبلغ الرواية ذروتها في الهجوم الإسرائيلي على مدينة بيروت عام 1982.في لقاء قديم تحدث إلياس خوري عن وضعية الثقافة والسياسة في لبنان، وقال إذا لم نكتب تجربة الحاضر فإننا لا نكتب شيئاً، وتوقف متسائلاً عن سبب غياب نصوص تتحدث عن الحروب الأهلية السابقة في لبنان، والتي انتهت إلى هجرة المثقفين اللبنانيين إلى المهاجر وخصوصاً إلى الأميركتين، إذ اكتفى كتاب هذه الفترة بكتابة تبشيرية وعظية تكشف عن مفهوم متعالٍ للواقع الاجتماعي وأحداثه، لقد غاب البعد الاجتماعي والتاريخي واتجهت الكتابة إلى استعادة مفهوم الخلاص، كما عند جبران، وكانت اللغة مرتبطة بذاكرة متعالية ولم تكن متورطة أصلاً وظلت تدور في وهمها الخاص.