صناع المتعة والوناسة
الشعور الطافح بالقلق والخوف من هذه التغيرات التي ستضعنا على إحدى الحافتين، إما أن نتحول بحق إلى الربيع العربي أو إلى الجحيم العربي، فإما إلى طريق التحرر والديمقراطية الحقيقية أو إلى الانفلات الكامل للفوضى والعنف الذي سينتج أماكن أخرى تشبه أفغانستان أو العراق أو فلسطين.
والخوف الأكبر هو أن نعتاد وجود هذا العنف المنفلت من كل معايير الانضباط، وتصبح هذه البؤر المشتعلة بكل أنواع الإرهاب شيئاً عادياً جداً، ننام ونصحو عليه من دون أن يرف لنا جفن من خوف أو غضب.حاولت أن أخرج نفسي من طاحونة هذه الدائرة المشحونة بكوابيس العنف البشري، إلى نوع من الاسترخاء والراحة دفعتني إلى البحث عن شيء من التسلية في المحطات المخصصة لبرامج الأنترتينمنت بالرغم من أن الزمن هذا ليس بزمنها، وسيبقى الحال هكذا فترة طويلة مادام الوعي الوطني مشتعلاً إلى هذا الحد، فالفنون والأغاني هذا الزمن ليس بزمنها الذي رُحل إلى وقت غير معلوم.المهم أني وجدت برنامجاً مصروفاً عليه بجد، وربما تكون التكاليف فلكية التي أُنفقت على برنامج اسمه «على شط بحر الهوى» وهو من إنتاج محطة ام بي سي، وضم أسماء كبيرة لنجوم الغناء العربي لأن أصواتهم بحد ذاتها قادرة على منح متعة السماع للمشاهد.لكن البرنامج كان بالنسبة لي خيبة ما بعدها خيبة، وفلوس صُرفت على الهباء، والبرنامج بدلاً من أن يلمع النجوم قام بإطفائها، فالبرنامج ليس أكثر من خليط من السماجة وثقل الدم والتصنع الغث، فهو بلا خطة وبلا إعداد ولا ترتيب، جاء بالفنانين وأطلق سراحهم وأفلتهم في المكان ليتصرفوا بطبيعة جاءت غير طبيعية، وكشفت عن تكلف بعضهم والتصنع والفجاجة بدلاً من أن يمتعونا ويبهجونا زادوا علينا من ثقل الواقع، خاصة أن هذا البرنامج المصروف عليه بـ»هبل» جاء في غير وقته وفي غير أوانه.فدماء الشباب العرب الذين مازالت تنزف من أجل الحرية هنا وهناك، جعلت البرنامج الترفيهي يدور في فلك منفصل تماماً عن الواقع بل مستفز للواقع، كما أن صناعه بعيدون عن معرفة الكيفية التي تصنع بها برامج الواقع القادرة بالفعل على منح المتفرج متعة حقيقية ليست مفتعلة بالفبركة الماسخة والسمجة. ثقل الدم هذا دفعني إلى البحث عن شيء آخر أطرد به هذه المشاعر السلبية التي خلفها بي.أخرجت فيلم «up» الكرتوني الذي أرجأت مشاهدته بسبب هذه الثورات العربية، وجاء هذا الفيلم بالعلاج وبالبلسم لروحي المتعبة، وبالمتعة الحقيقية التي كنست كل ما سبقها من تقليد باهت لمعنى المتعة الفنية.هذا الفيلم درة الأفلام الكرتونية، مترف بإنسانية رهيفة تغلف كل لقطة وكل مشهد فيه برقة وعذوبة وشفافية تمنح الروح والقلب السعادة والانبساط والوناسة، بحيث أبقتني طوال وقت مشاهدتي للفيلم والبسمة لم تغادرني، كل ما بي ممتلئ إلى حافته بالحنان والمتعة الخالصة من أية شوائب تنتقص من قيمة العمل الفني.عمل متكامل وراق، مشغول بحرفية عالية، وبالتقاطات إنسانية ناعمة ورهيفة، خاصة تلك المشاعر التي تتعلق بالحب ما بين الطفلة المغامرة الشقية والطفل الحالم حتى كبرا وتزوجا وأصبحا عجوزين معاً، وحتى ماتت هي وبقي على ذكراها يعيش ليكمل المغامرة التي حلمت بها حتى يصل إليها ويكتشف الحقيقة في آخر الفيلم.الفيلم يسلط الضوء على تلك الأحاسيس الملتقطة بذكاء وبمشاهد تسقط على الروح بندى المحبة والسكينة.صدقوني هذا الفيلم هدية من المتعة التي ليس لها مثيل وصالح للمشاهدة من جميع أفراد العائلة، لأنه بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره يربي المشاعر على الحب والحنين، وفيه صناع حقيقيون، تملكوا أسرار خلق فن المتعة والوناسة والإيناس الحقيقي المسمى: «Entertainment».