في رواية «مطبخ» تفقد ميكاج جدتها، وهي في العشرين من عمرها، فتشعر أنها فقدت جزءاً من حياتها وعندما تلتقي شاباً هو يوشي يدعوها هذا إلى الانتقال إلى منزله لتقيم معه ومع أمه التي تدعى أريكو. أريكو هذه الأم الفاتنة ليست سوى الأب الذي غير جنسه، بعد وفاة زوجته. وهي تعمل ساقية في حانة، لكنها تموت في ما بعد، في مشهد عنيف بعد اعتداء أحد الرواد الليليين عليها. كانت العلاقة بين الثلاثة في منتهى الانسجام، حتى آل كل شيء في ما بعد إلى الاضطراب وعدم الاتزان. وما يجعل هذا العمل حميماً هو تهويمات ميكاج حول المطبخ، فهي تفضل النوم في المطبخ حيث الدعة والدفء، وروائح الطعام هناك تجد نفسها مستلقاة، بهدوء، دون أن يتعكر مزاجها، كأنما بذلك تعود إلى الرحم. إنها فتاة وحيدة على كل حال. نحن نعرف أن الطعام في اليابان وتقاليد المطبخ عريقة ومشدودة بفن خاص. علامة من علامات الذائقة التي تحتفي بالحواس، إضافة إلى لعبة الظلال والضوء المنعكسة على ألوان الطعام، وهي حاسة النظر، كما أن مشهد الطعام يُرفع بجماليات موازية، منها حاسة الشم، والمذاق، والنغم. وعندما تتوافر هذه الجماليات يبدو مشهد الأكل، كأنه طقس يكاد يكون روحياً. لكن رغبة ميكاج للنوم في المطبخ، يُعلّي من وحدتها وعالمها الحميم.
«أحسب أنني أحب المطابخ أكثر من أي مكان في العالم. ليس مهماً عندي أين تقع أو حالاتها، ولكن المهم أن تكون أماكن لإعداد وجبات الطعام، فلا أشعر بالتعاسة فيها. وأود، إن أمكن ذلك، أن تكون عملية وملمّعة من كثرة الاستعمال، فيها أكوام من الفوط النظيفة الجافة وذات بلاط ناصع البياض... يبقى المطبخ وأنا. إذ يبدو لي أن في هذه الخاطرة من السلوان ما يفوق اعترافي لذاتي وحيدة. حين أكون مرهقة تماماً أفكر، بشيء من الابتهاج، أنني عندما تحين ساعتي أود أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في مطبخي». من رواية مطبخ.في «خيالات ضوء القمر» يعود عالم، الموت والخسارة، عالم العزلة الداخلية، كما تعود أيضاً تلك النغمة الحزينة، الطفولية أحياناً، على ألسنة الشخصيات، وهي شخصيات عادية تماماً، بلا مفارقات دالة، ولا بطولات مزعومة.أغلب شخصيات بنانا يوشيموتو ذات صلة بواقع يبدو صلباً من الخارج، لكن نمط تفكير ومشاعر هذه الشخصيات فيه من الهشاشة بحيث تبدو أشبه بأطياف منسية، وهي فوق ذلك لديها الاستعداد للاستسلام لقدر غريب، كأن الألم حينما يستوطن الذات يشف عن تأمل عميق يتحول إلى فتنة وسحر يقود إلى مزيد من الفقدان.لن يعود الماضي بالتأكيد لكن الحياة تستمر على حافة الحنين والأسى. «حينما ذهب، كان هيتوشي لا يفترق عن جرس صغير علقه بمحفظته، كان هدية لا شأن لها قدمتها إليه حين كنا لانزال متحابين، ولم أدر حينئذ أنها لن تفارقه حتى النهاية». هكذا تتحدث ساتسوكي في (خيالات ضوء القمر) عن حبيبها الذي مات في حادثة سير مؤلمة. سيطل على المشهد، هيراجي شقيق هيتوشي الأصغر، الذي فقد في الحادثة نفسها حبيبته يوميكو، وبحكم الأسى والحزن سيرتبط مصير هاتين الشخصيتين عبر علاقة غاية في الرقة والإحساس بالفقدان. هذا المشهد اليومي والأليف سيُقطع بظهور فتاة اسمها أورارا، فتمر هذه الشخصية مثل قمر عابر يلفه الغموض، لتدل الشخصيات إلى سبل النجاة. اورارا هذه التي تلتقي بساتسوكي بمصادفة قدرية على جسر مطل على نهر، هي التي ستمنح نوعاً من السلوان إلى الأحباء، فتظهر أطياف الموتى في صمت ليلي على ضياء القمر.(لم يكن هناك سوى النهر والسماء وأنا... وممتزجا بالماء والهواء، ذلك الصوت الأليف، ذلك الصوت المحزن... الجرس الصغير، لم يكن هناك أي مجال للشك: انه رنين جرس هيتوشي. كان يصدر رنيناً خافتاً في ذلك الفضاء الذي لم يكن فيه سواي أنا. أغمضت عينيي، لكي أسمعه طي الهواء على نحو أفضل، ثم فتحتهما مجدداً، وعندما نظرت إلى الضفة الأخرى، حسبت أنني جننت حقاً أكثر جنوناً مما كنت عليه خلال الشهرين المنصرمين. كدت أن أصرخ وتمالكت نفسي بمشقة كبيرة. كان هيتوشي هناك). من رواية خيالات ضوء القمر.الماضي ليس سهلاً لكنه ليس بطلاً، بالتأكيد هذا ما تقوله بنانا يوشيموتو في عمليها الرائعين. ترى ألا يكفي أن نسمع رنين أجراس الماضي لنستذكر أطياف الموتى.
توابل
كتابة الفقدان واليابان 2
30-03-2011