يسلط كتاب «أبناء رفاعة» للكاتب الكبير بهاء طاهر الضوء على جوانب عديدة غفلنا عنها كثيراً... قدم كاتبنا في صفحاته تحليلاً تاريخياً عميقاً، لا يمكن لهذه السطور القليلة أن توفيه حقه، فقد أجاب فيه عن السؤال الصعب: لماذا تراجعت خطى المشروع النهضوي الذي بدأه رفاعة الطهطاوي، وكيف هيمن الفكر الإخواني (الذي أسسه حسن البنا) على نسبة كبيرة من الرأي العام في مصر؟

Ad

يعود بنا الأستاذ طاهر إلى عصر الدولة العثمانية المظلم (الذي يحن إليه الكثير من دعاة الدولة الدينية)، التي عمل سلاطينها على «خراب مصر»، فغاب التعليم وعم الجهل وانتشر فيها الظلم والاستغلال والفقر والمرض حتى كادت تهلك. فلم تستطع الدولة العثمانية الصمود بعد أن شاخت إلا بتحالفها مع الدول الأوروبية التي تمكنت من النهوض بسبب علمها وجامعاتها، ليظهر في بداية القرن التاسع عشر الرجل الأزهري رفاعة الطهطاوي الذي عمل مع مؤسس الدولة المصرية الحديثة محمد علي (أول حاكم يختاره الشعب في الحكم العثماني) على تجديد المنظومة الثقافية. تعلم الطهطاوي أسباب نهضة أوروبا حين سافر إلى فرنسا كمرشد ديني ضمن البعثات الطلابية التي أرسلها محمد علي، فأسس «انقلاباً فكرياً» في مفهوم الوطن والمواطنة، حين كان الطهطاوي «الساعد الأيمن لمحمد علي في سياسة التعليم العصري»، ليؤتى ثمار جهده الطويل بعد ربع قرن حين تخرج عشرات الآلاف من الطلبة من تلك المدارس، فازدهرت الصحافة والتأليف، لتصبح تلك المرحلة أشبه بـ»اليقظة بعد السبات الطويل».

لكن الغرب وخلفاء محمد علي الذين كانوا يحكمون على الطريقة العثمانية تكالبوا على مصر مرة أخرى، ليتسلم «الراية» بعد ذلك رائد أزهري آخر من رواد النهضة، وهو محمد عبده، الذي حارب مع الثورة العرابية من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية وأوروبا، وترسيخ الدولة المدنية التي تحقق المواطنة والحرية والمساواة، فالإمام عبده لا يرى أن «في الاسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير».

انتهت الثورة العرابية باحتلال إنكلترا لمصر في 1882، ليغلق اللورد كرومر المدارس من جديد، ولتظل نسبة الأمية في الثلاثين سنة من عهده ثابتة (91 في المئة)... و»تحتم على المثقفين» المصريين بعد ذلك «أن يبدأوا مرة أخرى من نقطة الصفر»، فعملوا هذه المرة على التحرير الاجتماعي، لتتحقق فكرة قاسم أمين في إنشاء أول جامعة أهلية في 1908 من خلال تبرعات الشعب، كما عمل أمين على الدعوة إلى تحرير المرأة من عبودية الرجل في وقت كان وضعها «أسوأ من الرقيق».

لقد تبنى الجيل الجديد، في خضم هذا التفاعل الثقافي، أفكار الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين ليستيقظ الوعي من جديد... ولتنتصر «قيم الحرية» في ثورة 1919، فخرجت المرأة في المظاهرات، وخطب القسوس من فوق المنابر وشيوخ الأزهر في الكنائس، ليؤكدوا لحمتهم الوطنية ضد المستعمر، وليستعيدوا الدستور مرة أخرى.

هكذا كان الحراك الثقافي في كل مرة يدفع المجتمع إلى الأمام، ليكمل العميد طه حسين الأزهري مسيرة التنوير في الثلاثينيات، فألف كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، لكن مشروعه لم يكتمل بسبب ثورة الضباط الأحرار في 52، التي همشت المثقفين المعارضين.

ازداد الأمر سوءاً حين شن السادات حرباً ضروساً ضد المثقفين، فأغلق المجلات والمسارح وفصل العديد منهم من وظائفهم، بل وعمل على تشويه صورة المثقفين ووصفهم بالشيوعيين والكفار، وأصبحت العلمانية سبة يلصقها «كتابه» برواد التنوير كلما أرادوا صرف الوعي العام عن الثقافة الحقيقية، فحل محلها التسطيح والغوغائية التي عمقت «النكسة الثقافية»، فتغلغل «الوعاظ» بقوة إلى الساحة التي خلت لهم، وسيطر من خلالها فكر الإخوان المسلمين الذي زحف إلى المنابر الإعلامية والتعليمية حين فتحت لهم الأبواب وأهديت الأموال، ليتمكنوا من المجتمع بعد أن غاب عقله، «فغزت» ثقافة الطاعة العمياء والتلقين والتكفير... وخرجت من عباءة الإخوان تيارات دينية أخرى أكثر تطرفاً وتشدداً.

لقد أخرج أبناء رفاعة المجتمع من استبداد العصر الغابر، ليعيده من جديد أبناء البنا.