بالنسبة إلى نظام الكفيل، فلم يعد هناك شك في أنه في طريقه إلى الإلغاء في دول الخليج العربية الست، أما الأسئلة المتبقية، فتتعلق بقدرة تلك الدول على إقناع المجتمع الدولي بأنها أصبحت أكثر اتساقاً مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وتنظيم العمالة الوافدة من جهة، وأن أمنها القومي وبنيتيها الاجتماعية والاقتصادية لن تتأثرا سلباً بهذا الإلغاء من جهة أخرى.

Ad

في شهر أبريل الماضي، وصلت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان نافي بيلاي إلى المملكة العربية السعودية في زيارة عمل، حيث دعيت إلى إلقاء محاضرة في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وحيث سجلت أول انتقاد أممي علني لنظام الكفيل من داخل البلاد.

فقد قالت بيلاي: "للأسف غالبا ما يتعرض العديد من المهاجرين في هذه المنطقة للتمييز والعنف والاستغلال وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان"، ودعت دول الخليج إلى "إلغاء نظام الكفالة وسن قوانين تتيح التوازن بين حقوق العمال وواجباتهم".

ورغم أن أهمية ما قالته المفوضة الأممية تكمن في أنه قيل داخل المملكة وأمام نخبة من قادتها، فإن محتواه ليس جديداً بالطبع، فقد سبق أن ورد مثله في تقارير وزارة الخارجية الأميركية، التي وصفت نظام الكفيل في دول الخليج العربية بأنه "نوع من الاتجار في البشر".

أما منظمة العمل الدولية، فقد ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، حين قالت إن "نظام الكفالة أشبه ما يكون بنوع من الرق"، فضلا عن انتقادات منظمات حقوقية دولية عديدة ذات اعتبار ونفاذ لهذا النظام وتداعياته، خصوصاً كلما تم الإعلان عن واقعة استغلال أو انتهاك لحقوق أحد العاملين الوافدين، الذين يبلغ عددهم 17 مليوناً في دول مجلس التعاون الست.

ولعل كثيراً من الخبراء والمختصين يعلمون أن معظم الاتفاقيات الاقتصادية التي سعت دول الخليج الست إلى توقيعها مع كتل ومنظمات دولية أو دول كبرى مؤثرة في النظامين السياسي والاقتصادي العالمي تعرضت للتأخير وخضعت لمفاوضات شاقة حول نقطة حقوق عمل الوافدين، ومست نظام الكفيل مباشرة. وحصل أن تلقى مسؤولون خليجيون مطالبات واضحة بضرورة العمل على إزالة ذلك الإشكال الحقوقي والإنساني حتى يمكن تمرير اتفاقيات مهمة انعكس بعضها في صورة مكاسب حقيقية لتلك الدول على صعيد التمركز السياسي والعائدين التجاري والاستثماري.

لم تقتصر الإدانات والانتقادات الموجهة إلى نظام الكفيل على الفعاليات الدولية فقط، بل أظهر المجال العام في دول الخليج الست مطالبات واضحة أو مكتومة من قبل ملايين العمال الأجانب، الذين عرف بعضهم كيف يشهر بالنظام و"يفضح نقاط الاستغلال" به بعد مغادرته البلد الذي يعمل به. لكن الأكثر أهمية واعتباراً ما ظهر من انتقادات واضحة من أشخاص وهيئات ووزارات لبعض العوار الذي يظهر في النظام وتطبيقه أو للنظام برمته عبر الدعوة الجادة إلى إلغائه.

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى ما صدر عن "الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان" في السعودية، التي قالت إن النظام "ينتهك حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً والتي كفلها الإسلام"، ووصف الأمير طلال بن عبدالعزيز للنظام بأنه "وصمة عار" في جبين دول الخليج، وغيرها من الإشارات التي لم تدع مجالاً للشك في أن أنصار هذا النظام باتوا في تراجع وأن نقاده يتزايدون يوماً بعد يوم.

التقطت البحرين الخيط مبكراً وأعلنت إلغاء نظام الكفيل في شهر مايو من العام الماضي، وأعلنت الكويت أيضاً إلغاء النظام اعتباراً من شهر فبراير المقبل، "ليكون هدية البلاد للوافدين في عيد التحرير".

لكن الإنصاف يقتضي القول إن المشكلات الكبيرة التي قد تنتج عن إلغاء النظام لن تكون في البحرين ذلك البلد محدود المساحة ومحكم المنافذ، والذي لا يزيد عدد العمالة الأجنبية فيه عن نصف المليون عامل، يشكلون نصف السكان تقريباً، كما أن الإشكال لن يكون كبيراً جداً في الكويت، التي يبلغ عدد العمال الأجانب فيها 1.7 مليون من أصل 2.4 مليون وافد في مقابل 1.1 مليون مواطن.

لكن الإشكال ربما سيكون أكبر في دولة مثل السعودية، التي تمتلك حدوداً مع نحو عشر دول، ويعيش فيها أكثر من ستة ملايين وافد، وتشهد معدلات بطالة مرتفعة، أو دولة مثل الإمارات التي يمثل الأجانب أكثر من 80 في المئة من سكانها، والتي تشكل القوى العاملة الوافدة أكثر من 90 في المئة من مجموع القوى العاملة فيها، والتي يتمتع جهازها المصرفي بفوائض مالية كبيرة، يعتمد في بعض جوانب تشغيلها على تسهيل شروط الإقراض للوافدين.

يبدو أن البحرين والكويت قد درستا ملابسات إلغاء النظام جيداً، فقد مر نحو عام على إلغاء النظام في الأولى ولم تظهر مشكلات كبيرة، كما أن الكويت أعلنت تصورا تشريعيا وتنظيميا متكاملا يحول الاستقدام من الصيغة الفردية إلى مؤسسة عامة، وفي كل الأحوال ستتكفل السوق الصغيرة نسبياً والمرنة بمعالجة المشكلات الأمنية التي قد تنشأ عن التخلي عن النظام السابق.

سيبقى أن السعودية والإمارات وقطر وعمان أصبحت في موقف أصعب، فالإعلانان البحريني والكويتي لم يتركا ذرائع يمكن الاستناد إليها عند الاستمرار بالعمل بنظام الكفيل. لم تنسق الشقيقات الست قرارها وتوحده وتكسبه مظلة حامية وجيهة وتصدره عبر "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، بعد دراسة عميقة متأنية، وبنى تنظيمية وتشريعية متماسكة، يمكن إخطار العالم بها والدفاع عنها من دون المس بالاعتبارات الأمنية والاقتصادية لتلك الدول.

ستضطر دول الخليج الأربع الباقية إلى إلغاء نظام الكفيل إن عاجلاً أو آجلاً، وستستبدل نظماً أخرى به، ستبدو أكثر حداثة واتساقاً مع معايير العمل الدولية وحقوق الإنسان كما تدعو إليها المنظمات الأممية، لكنها ستظل تعاني مشكلات سببها الرئيس اختلال سوق العمل بها وحاجتها الماسة المتزايدة إلى العمالة الوافدة والعوار في تركيبتها السكانية.

سيكون إلغاء الكفالة أمراً يسيراً بالنسبة للدول الأربع التي لم تتخذ قرارها النهائي بعد، لكن الإشكال يتعلق بأن دول المجلس ذهبت إلى قرار يمسها جميعاً فرادى، فمثلت قيداً بشكل أو بآخر على بعضها بعضا، وعززت قابليتها للاستهداف وتلقي الانتقادات والضغوط.

أما الإشكال الأكبر، فيتعلق بالخطوة المقبلة والمطلب الجديد الذي سيبدأ بالتصاعد، حول حقوق العمال الأجانب وأسرهم في الإقامة الدائمة والحصول على الجنسية.

أفضل ما يمكن أن تفعله دول الخليج الآن هو أن تنسق سياساتها العمالية وتحدد الخطوط العامة لتلك السياسات، لتصدر من خلال قرارات جماعية تراعي ظروفها مجتمعة وهواجسها الفردية، وتحد من قابليتها للاستهداف والضغط والابتزاز، وتتسق مع المعايير الإنسانية والحقوقية لحقوق العمالة في آن واحد.

* كاتب مصري