تمتلئ أجواء رمضان في الكويت والدول الإسلامية، وتحديداً في العشر الأواخر، بالعبادة والروحانيات، وتعمر المساجد بالمصلين، وتتباهى الصحف على صدور صفحاتها بصور تبيّن الأعداد الغفيرة التي تحيي صلاة القيام، والتي تحتل صفوفها الأولى شخصيات من «أكبرها وأسمنها» من رجال المال والأعمال والسلطة، في مشهد من الزهد والتقوى يستنتج من يراقبه من داخل البلد وخارجه، أن قلوب من يصطفون بهذا الخشوع بعيون مكتنزة بالدموع وأصوات حشرجات البكاء والنواح من خشية الله، قد انفطرت من شدة توبتهم النصوح وتحولوا إلى شبه ملائكة بعد أن استوعبوا العبرة من صيام رمضان في البذل والتراحم والإحساس بحاجة المحتاج والمعوز.

Ad

لكن ما يحدث في الواقع غير ذلك تماماً بالنسبة إلى أغلبيتهم، ففي نهار اليوم التالي تتحول معظم صفوف الملائكة تلك إلى وحوش نهمة بعضها ينهش بعضاً، وتتصارع على المال والنفوذ والسلطة، فأغلب رجال الأعمال منهم يتصارعون على مناقصات وأعمال الدولة بكل الوسائل المشروعة، وأحياناً غير المشروعة، وحتى الفتوى كما حدث أكثر من مرة في اللجنة المالية البرلمانية، وهذه المناقصات والأعمال التي تتحول في ما بعد إلى نهب عام من خلال مقاولات الباطن واللعب بالأوامر التغييرية، والاستيلاء على أراضي الدولة بإيجارات رمزية ليحولوها إلى أراضٍ تجارية ويؤجروها للغير، فيما بعد، بملايين الدنانير.

وبعض المحامين في صفوف الملائكة تلك أيضاً هم من الغارقين في الموضة الجديدة، وهي مكاتب التحصيل القانونية التي تلاحق المواطنين بكل وسائل الترهيب والإزعاج، لتحصيل ديون بفوائد فاحشة لمؤسسات تجارية ومصرفية، ليأخذوا نسبتهم من مال السحت الحرام، والموظف الذي يتفنّن في التهرب من مهامه الوظيفية وتعطيل مصالح عباد الله، وذاك الشاب الخاشع في صفوف صلاة القيام يخرج بعد أدائها بسيارته الحديثة «المتفوخة» والتي تسد الطريق العام لأنه يؤدي الصلاة!... لينطلق بها ويخالف كل قوانين المرور ويروّع الآمنين في الطريق العام.

بالتأكيد لم نرَ المليارديرَين بيل غيتس ووارن بافيت في الصفوف الأولى لصلاة القيام في المسجد الكبير بواشنطن أو شيكاغو ولم يعرفا يوماً صيامنا، لكنهما وأربعين مليونيراً أميركياً آخرين فعلوا ما لم يقدر أن يفعله الخاشعون في صلاة القيام عندنا، فقد قرروا التنازل عن نصف ثرواتهم التي تُقدَّر بمليارات الدولارات للأعمال الخيرية، بينما قرر الملياردير وارن بافيت صاحب سلسلة محلات التجزئة الأميركية الكبرى وحده وهو على قيد الحياة، التنازل عن كل ثروته البالغة 47 مليار دولار للأعمال الخيرية ومساعدة الأسر المحتاجة وبرامج المنح الدراسية للطلبة والمُعاقين.

غيتس وبافيت لم يصنعا ثروتهما من خلال التثمين أو عمولات الوكالات الحصرية، أو الغش في مناقصات محطات تنقية المجاري وبيوت الدخل المحدود والملاعب الرياضية، أو تعويضات المديونيات الصعبة من دون مركز مالي للأموال والممتلكات في الخارج، أو تحويل الأراضي الصناعية إلى محلات و»مولات» تجارية، بل خدما الإنسانية ومجتمعيهما، فغيتس جعل الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وسيلة لخدمة البشرية، وبافيت بدأ حياته خلال الحرب العالمية الثانية بإيصال السلع إلى ربّات البيوت في منازلهن ليتمكنَّ من رعاية أسرهن واختصار الوقت والجهد، حتى يستطعن الذهاب إلى مصانع الإنتاج الحربي مساءً بسبب وجود الرجال على جبهات القتال، وفي نفس الوقت كان بافيت وغيتس وزملاؤهما الأربعون المتنازلون عن ثرواتهم يدفعون كامل ضرائبهم للدولة سواء على مستوى المقاطعة أو الولاية أو الحكومة الفدرالية، ولم يعايروا الدولة أو شعبهم يوماً بأنهم بنوا المدارس والمستشفيات بأموال ضرائبهم، لذلك يجب أن يكون على رأسهم ريشة في المناصب والحكم أو أن يكونوا فوق القانون، بل إن غيتس الذي غُرِّم بمئات الملايين من محاكم بلده والمحاكم الأوروبية لاحتكاره برامج «الويندوز» لم يكفر بوطنه، وأنصاع للحكم دون أن يهدد بلده بالرحيل أو نقل أمواله وأعماله منه.

غيتس وبافيت وزملاؤهما لم يغشوا مجتمعاتهم أيضاً بتنظيم مسابقة لحفظ الإنجيل لا يتجاوز إجمالي جوائزها 30 ألف دولار ودروعاً من تنك بلا قيمة، بينما تسلخ مصارفهم الناس برسوم وفوائد فاحشة، ولم يدمروا مشاريع بنيتهم التحتية وخدماتهم ومدارسهم بمواصفات مغشوشة، أو ينظموا مسابقة للفنون المسرحية «تفشّل» للترويج الإعلامي لهم، أو يرمِّموا جناحاً في مستشفى للشهرة العائلية...

ما يحدث لدينا في الكويت والعالم الإسلامي بالمواسم الدينية في رمضان والحج، مظاهر تمثل قشرة الإسلام لا جوهره... فمتى تنتهي «شيزوفرينيا» المسلمين المتأرجحة بين المظاهر والمضمون؟ والتي تجعل أكبر تجمع لفقراء العالم هو في دول المسلمين، رغم أن العالم الإسلامي يصوم منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة ليشعر الغني بحاجة الفقير، ورغم أيضاً أن أكبر موارد العالم وأغنيائه يتمركزون في محيطه.