نادراً ما كنتُ أكتب شعراً في مسقط، في زياراتي المتتالية لها، هذه مدينة تأبى عليّ، على هذا الصعيد. علاقتي بها، علاقة توتر غير خلاق، لذلك ألجأ في المرات القليلة التي أكتب فيها إلى تنقيح قصائدي التي كتبت في أمكنة أخرى، في مسقط أميل إلى استحضار عالم آخر هو عالم القرى والأرياف. نفعاء مثلاً في «عزلة تفيض عن الليل» تظهر دون أن تُسمى كخلفية لعالم الطفولة. عُمان الزاخرة بقرى وفراديس حميمة، تدعوني على الدوام إلى إنارة ذاكرتي حتى لو لم أكتب عنها. سمائل، سرور، التي أشعلها في الخيال، رجل غريب الأطوار هو علي بن ساعد. ثم هناك حميم التي كنت أزورها مع أبي أيام الطفولة. شناص أيضاً ابنة البحر الوفية التي لأمْرٍ ما، لا أعرفه حتى هذه اللحظة، دعاني أبي كلما توقفنا فيها في الستينيات إلى عدم نسيانها، كما لو أنها تخبئ لي كنزاً، وقد تحققت حكمته، ربما بكنز الصداقة مع بعض شعرائها.

Ad

صور مدينة أغبط عليها أصدقائي، للأسف معرفتي بها قليلة. شعرياً، كنت أتمنى أن أكتب عنها مطولة تليق بمجدها على غرار «قصيدة صور» لعباس بيضون. عندما أقمت في نيويورك، كان ساحلها الذهبي «خور جرامة» غالباً ما يزورني في أحلامي. أمكنة ومدن كثيرة: فنس، ضباب، طيوي، إشراقات شعرية أيضاً. فنس كتب عنها كما كتب عن عابدات الفرفارة ببالغ الحميمية الشاعر سماء عيسى.

«كل فجر يلقي مالك الحزين نظرته الأولى

على قبور المجهولين الغرقى».

غير أن بعض هذه الأمكنة في عُمان تستوعب بجدارة انهمامات سردية لو قيِّض لها أن تكتب بعمق، لكانت في غاية الدهشة. حينما قرأت منذ سنوات رواية «بيدرو بارامو» لـ خوان رولفو، تخيلت أحداثها التي تدور في قرية من قرى أميركا اللاتينية، وكأنها تدور في إحدى قرى عُمان.

بعض المدن، ما إن تذكر حتى يحضر شاعرها أو أحد كتابها. لا تذكر غرناطة مثلاً، إلا بحضور لوركا، قادِش بحضور رافائيل البرتي، الإسكندرية بكفافيس، بروكلن بهنري ميلر، البصرة بالسياب، الخ.

لو خيرت العيش في إسبانيا لكنت اخترت قرطبة، مدينة غاية في الرقة والوداعة، زرتها للمرة الأولى مع الشاعر سماء عيسى في عام 1979 على ما أذكر. أدهشتنا المدينة. استضافنا نُزلٌ بسيط وعندما كنا نعود في آخر الليل، لاحظ سماء عيسى بحسه الشعري، حقيبة منسية تحت سلم النزل ووصفها على ما أذكر أيضاً، بأنها حقيبة المنسيين. بعد سنوات طويلة ستقفز من مجاهل العقل الباطن، صورة شعرية هي:

السلالم أخوة الظلال

إشارة أخيرة، لمدافن العمر.

هذه الصورة إذن تعود إلى قرطبة ثم جرى تطويرها في ما بعد.

بعض الشعراء والكتاب، يمنحون المدينة أفقاً جمالياً. كريستيانا مثلاً، مدينة في النرويج، تدور فيها أحداث رواية «الجوع» للكاتب النرويجي كنوت هامسون، الحائز على جائزة نوبل 1920، يقول عنها: «كريستيانا، تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسمه، بسماتها وتترك عليه آثارها».

القاهرة أيضاً، هي المدينة التي كتب عنها وفيها نجيب محفوظ وكتب عنها حجازي في بداياته «مدينة بلا قلب».

باريس، لؤلؤة الجمال على صعيد الشعر والفن عموماً، مِطواعة، وفيرة حَدّ البذخ، فيها كتبتُ كما كتب غيري، نصوصاً شعرية أعتز بها. بعضها نشر في «الصمت يأتي للاعتراف». عشت في باريس ما يقرب السنتين في أوائل الثمانينيات. عنها كتب بول ايلوار، مجموعته «عاصمة الألم» إبان الاحتلال النازي. إليها هاجر الشعراء والكتاب والفنانون، حتى أن شاعراً مثل ريلكه دعته إلى كتابة قصائد بالفرنسية. يكفي أن تنزل إلى تقاطع السان ميشيل والسان جرمان ومقهى فلور وكلوني لكي تفيض عيناك بالشعر.

نيويورك، مدينة الأبالسة وضفيرة المنتحرين، فيها استوعبت نفسي وكللت بالغار ألم ما بعد العاصفة. أذكر أنني سألت عنها أدونيس قبل أن أذهب إليها فقال لي إنها كوكب آخر وهي حقاً كذلك. نيويورك مدن في مدينة واحدة، تعتصر المرء بلا شفقة، فيها أيضاً كتبت جزءاً من «عزلة تفيض عن الليل» و»الصمت يأتي للاعتراف».

مالمو المدينة التي كنتُ أقيم فيها، هي المدينة الثقافية في السويد، إنها مدينة الموسيقيين الخمسة في الساحة الكبيرة. الطبيعة في هذه المدينة سيدة باذخة لا تجارى. تتبدل الفصول الأربعة أمام عينيك بإيقاع شعري كأنما هدية من امرأة. معظم قصائد «أزهار في بئر» كُتبت هنا.

المدن والأمكنة، هي أيضاً أحلامنا، حنين الأعمار إلى التراب والظل.