الليل المعتم للروح
قبل أكثر من سنوات عشر تقريباً، شاهدتُ عرضاً فنياً في «الغاليري الوطني» لفنانة من البرازيل تُدعى Ana Maria Pacheco (في الإمكان الاطلاع على أعمالها في موقعها على الإنترنت). العرض نحتي، في مشهد شبه مسرحي لشخوص عدة. الشخصيةُ المركزية تمثل رجلاً عارياً مُغطى الرأس، مربوطاً على عمود، ومُصاباً بسهام عدة. الشخص العاري الآخر طفل يحدق بفضول فيه. البقية شخوص عدة بردود أفعال مختلفة. المُصاب يذكر بحكاية القديس سيباستيان، أول مسيحي استشهد على يد الرومان، ولكن دون إشارة مباشرة. الأمرُ الذي يوسع من أفق التأويل لدى المشاهد. عنوانُ العرض «الليل المُعتم للروح» يُذكّر بكتاب القديس الشاعر الإسباني يوحنا الصليب: «الرحيل المعتم للروح». المنحوتات من الخشب المطلي باللون polychrome. وهذه التقنية إرث فني قديم في إسبانيا وأميركا اللاتينية.
العرض لم يغادر ذاكرتي منذ ذلك الحين. قبل أيام دعاني الصديق الشاعر ماريوس كوجيوفسكي إلى عشاء، وأخبرني أن الفنانة البرازيلية آنا ستكون أحد المدعوين، إلى جانب شاعرة من أيرلندا تدعى مارتينا إيفانز. كان ماريوس على وشك الانتهاء من تأليف كتاب عن عدد من الكتاب والفنانين الأجانب، المقيمين في لندن. كنت أنا أحدهم، وكذلك آن ومارتينا. فرصة رائعة للتعارف، واستعادة ليل الروح المعتم ذاك. في حفلة العشاء كانت آنا بالغة الحيوية، والانبساط، والحميمية. قلت لها «إن الفنان والشاعر عادة ما ينطويان على كيانين فيما يبدو. كيان ظاهر وآخر باطن. ولا يعكس أحدهما الآخر. هذا يصح عليّ، وأراه يصح عليك بصورة مُدهشة. كنت أتوقع أن ألتقي بفنانة تحت وطأة الليل المعتم للروح. بالغة السكينة، والانطواء!»، وحدثتها عن انطباعي بشأن عملها. أخبرتني أن لها عرضاً فنياً أصغر حجماً الآن، في كنيسة سانت جون، قرب محطة واترلو، فوعدتها بزيارته.في الكنيسة، حين دخلت، عازفان على آلتي البيانو والترومبون النحاسية الخفيضة، يقدمان ضرباً من السوناتا على ما أعتقد، لموسيقي شاب كان حاضراً، وعلى شيء من الحرج. الجمهور يُعد على الأصابع. عمل آنا الفني في ركن جانبي من البهو. شخوص نحتية أكبر من الحجم الطبيعي للإنسان. مناخ المشهد تراجيدي: شاب يحمل شيخاً على ظهره، ووراءه حفنة من نساء ورجال على قدر من الضياع والرعب. المشهد يذكّر بحكاية إينياس بطل «إنيادة» فيرجِل، الذي هرب من طروادة المدحورة، حاملاً أباه الملك. وتعرضت للتأثير القديم ذاته. فبينما كنت أدور حول المشهد المسرحي، كانت الموسيقى تدور حولي. تجربة لا تخلو من فرادة، دفعتني عند العودة إلى البيت إلى كتابة هذه المخطوطة لقصيدة، لم أبتّ بمقدار صلاحيتها بعد:الصوتُ والصمتُ: صرختان في لوحتكِ الواحدة:الأولُ ينتسبُ لصرخةِ البحر، والصمتُ ينتسبُ لصرخة البئر.الرجلُ الأعمى يحملُ عبء الرجلِ المُقعد،وطريقُ المنفى ظلٌّ للقدمين، ومحظ صدى لخطاه.أبحث عن لحنٍ طربٍ في آلة تشلو منفردة، بجوار المذبح لكنيسة سَانت جون.أبحث عن أثر في هذي الأردية السوداء،وهي تحيط نساءكِ ورجالكِ مثل الريحِ الباردة،لرداءٍ يُخفِقُ فوق حبال غسيل الجارةِ، في ذاكرتي.كم يبدو هذا المشهدُ خارجَ صفحاتِ التاريخ؟أيتها النحَاتةُ في الخشب الصلبِ، الرسّامةُ سيماءَ مجرتنا السوداء،ماذا تبغين من غفلة هذا العابر إلى جوارك؟وإذا كنتِ معي منشِدةً أغنيةَ الهربِ إلى أرض الآمال،فعلامَ الحرصُ على حملِ الإرثِ المتهالكِ فوقَ الكتفِ المُتعب؟