يحكى عن الإمبراطور ميجي باني نهضة اليابان الأولى، وهو والد جد الإمبراطور الحالي أكيهيتو، قصة مخيفة لا يُعرف مدى صحتها، ولكن يمكن تخيلها ضمن صرامة الموروث الياباني الذي يعتبر الانتحار على سبيل المثال وسيلةً للاستغفار وغسلاً للعار في حالة الفشل.
القصة تقول إن أول بعثة يابانية تم إرسالها إلى أوروبا لاكتساب العلوم والمعارف التي تحتاجها اليابان كانت بعد أن قرر ميجي تحطيم أسوار عزلة اليابان الطويلة عن العالم الخارجي، وقد صرف على أفرادها رواتب تجاوزت رواتب الوزراء في ذلك الحين حتى لا يتركوا شيئا يضيع من بين أيديهم تحت وطأة قلة المال والتسهيلات... الشيء غير المتوقع هو شباب البعثة اليابانية الذين صدموا بجمال الأوروبيات وصخب الحفلات الساهرة في بلادهم، فانغمسوا في الملذات حتى آذانهم ونسوا المهمة الأصلية التي أرسلوا من أجلها.بعد عدة سنوات عادت البعثة «التلفانة» إلى أرض الوطن، وأقام أفرادها حفلة مثل حفلات أيام أوروبا، وقبل ذلك علم الإمبراطور خبر فشل البعثة الأولى التي وثق بها لدرجة أنه لم يتقصَّ أخبارها المخجلة، فقرر قتل جميع أفراد البعثة بلا استثناء خلال حفلتهم أمام الناس حتى يكونوا عبرة لغيرهم، بعد تلك الحادثة التزمت جميع البعثات التعليمية والتدريبية اليابانية بأهداف ميجي ورؤيته لتحديث اليابان، ودفعها إلى مصاف الدول المتقدمة، ويقال إن كل فرد من أفراد تلك البعثات بعد عودته حمل معه علماً فوق علمه وفناً جديداً لم يطلب منهم؛ حتى يخدموا بلدهم وإمبراطورها الطموح من جهة، ويسلموا برقابهم من جهة أخرى.المغزى من سرد هذه القصة ليس التخويف أو الإضحاك، بل الإشارة إلى أن اليابان بعظمتها الاقتصادية وتفوقها التكنولوجي الذي نعرفه اليوم، اعتمدت في وقت سابق على خبرات الغير وعلومه لتحقيق نهضتها وفق شروط التحديث التي لا بد منها؛ دون أن تتنازل ولو عن شبر واحد من خصوصيتها الثقافية، وكل ما تؤمن به من معتقدات وعادات، والشيء الثاني هو أن اليابان بجلالة قدرها أيقنت أن التقوقع والنهضة لا يجتمعان، فإما الانفتاح والتواصل مع الآخر وإما الانغلاق والغرق في عقد التفوق والطهارة الأخلاقية.هناك قائد محنك من المسلمين هو مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، الذي رفع شعار الاتجاه إلى الشرق بدلاً من الغرب وإلى اليابان تحديداً، وطوال 22 عاما انتقلت ماليزيا من بلد زراعي فقير يغرق الناس فيه كل يوم بالأوحال لقلة الشوارع المسفلتة إلى بلد ذي اقتصاد قوي تبلغ صادراته 520 مليار دولار سنويا، بنظام تعليمي يحقن الأجيال الجديدة بالأفكار الخلاقة، ولا يكرس مفاهيم التفرقة بين الأغلبية المسلمة والأقليات البوذية والهندوسية، فالكل ماليزي والأولوية لصاحب الكفاءة.لقد أحرجت ماليزيا المسلمين المتشددين قبل القوى المعادية لكل ما هو عربي ومسلم، فهي نموذج حي لبلد ديمقراطي تمكن من تحقيق ثورة صناعية وحضارية دون أن يكون الإسلام أو المسلمون عائقين يمنعان الوصول إلى تلك الغاية.لقد أضعنا- نحن العرب- الكثير من الوقت، ونحن ننظر بعين واحدة إلى النموذج الغربي في التقدم والتطور الحضاريين!! ذلك أن تجربة النمور الآسيوية الصاعدة أقرب ما تكون إلى المأدبة الباذخة المليئة بجميع صنوف الطعام، وليس علينا سوى اختيار ما يوائم دواخلنا ودخولنا.ويهمني في الختام التوضيح بأن نهضة عربية تتجاهل إخوتنا في الأرض والتاريخ، وهم الأكراد والبربر والمسيحيون والأفارقة وغيرهم لا خير فيها؛ لأن من فشل في الانفتاح الداخلي سيفشل في الانفتاح الخارجي مهما اجتهد أو حاول.الفقرة الأخيرة: ما ورد في مقال اليوم هو ملخص للشهادة التي ألقيتها في ندوة «مجلة العربي» بعنوان «العرب يتجهون شرقا» يوم الثلاثاء الماضي.
مقالات
الاغلبية الصامتة: نحتاج إلى ميجي أو مهاتير إن أمكن
27-01-2011