كان من المعتقد، لأعوام طويلة، خصوصا في الغرب، أن الأديان ستذوي وتتلاشى مع تطور المجتمعات، ولكن هذا لم يحدث، وبحلول بداية عقد جديد من القرن الحادي والعشرين، فقد آن الأوان لكي يأخذ صناع القرار السياسي الأديان على محمل الجد.

Ad

إن عدد الأشخاص الذين يعلنون إيمانهم الديني آخذ في الازدياد في أنحاء العالم المختلفة، ومن الواضح أن هذه هي نفس الحال في العالم الإسلامي، وفي حين بات معدل المواليد في أوروبا راكداً، فمن المتوقع أن يتضاعف عدد العرب في غضون العقود القليلة المقبلة، فضلاً عن ذلك فإن عدد السكان سيرتفع في العديد من البلدان الآسيوية ذات الأغلبية المسلمة، والمسيحية أيضاً آخذة في النمو بطرق غريبة وفي أماكن تثير الدهشة.

وتشهد الصين أكبر نمو للأديان، بل إن التدين في الصين يستحق التأمل والتفكير، فقد أصبح عدد المسلمين في الصين أكبر من عددهم في أوروبا، وعدد البروتستانت الممارسين لشعائر دينهم في الصين أكثر من عددهم في إنكلترا، وعدد الكاثوليك في الصين أكثر من عددهم في إيطاليا، فضلاً عن ذلك، وطبقاً لأحدث دراسات المسح، فإن نحو 100 مليون صيني يعتبرون أنفسهم بوذيين، ولا شك أن الكونفوشيوسية- وهي فلسفة وليست ديناً- تحظى بقدر كبير من التبجيل في الصين.

وهناك حركة إنجيلية ضخمة في البرازيل والمكسيك، ويظل الإيمان في نظر العديد من سكان الولايات المتحدة يشكل جزءاً بالغ الأهمية من حياتهم، وحتى في أوروبا، تظل أعداد المعترفين بإيمانهم بالرب مرتفعة، وبالطبع، هناك مئات الملايين من الهندوس، فضلاً عن أعداد كبيرة من السيخ واليهود.

إن أصحاب الإيمان يقدمون أعمال خير عظيمة للبشر بفضل إيمانهم، والواقع أن نحو 40% من الرعاية الصحية في إفريقيا تقدمها منظمات دينية، وجماعات الإغاثة من المسلمين والهندوس واليهود تنشط في أنحاء العالم المختلفة في مكافحة الفقر والمرض. وفي أي دولة متقدمة سنجد الرعاية القائمة على نكران الذات تقدم إلى المعوقين والمحتضرين والمعوزين والمحرومين من قِبَل أشخاص يعملون بدافع من عقيدتهم الإيمانية، إن القاسم المشترك الأعظم بين جميع الديانات الكبرى هو حب الجيران والمساواة بين البشر أمام الرب.

ولكن من المؤسف أن الشفقة ليست السياق الوحيد الذي تحرك فيه الأديان الناس، فقد يعزز الدين أيضاً التطرف، بل حتى الإرهاب، وهنا يتحول الإيمان إلى شارة الهوية في معارضة كل من لا يشاركوننا نفس الهوية، وهو نوع من القومية الروحية التي تعتبر أولئك الذين لا يتفقون معنا- وحتى هؤلاء الذين يشاركوننا نفس العقيدة الإيمانية ولكنهم يتناولونها من منظور مختلف- غير مؤمنين، ومن الكفار، وبالتالي من الأعداء.

نستطيع إلى درجة ما أن نقول إن هذه الحال كانت دوماً، والأمر الذي تغير هنا يتلخص في الضغوط التي تفرضها العولمة، التي تدفع شعوب العالم دوماً إلى التقارب مع تقدم التكنولوجيا وإسهامها في تقليص العالم، وربما يتذكر هؤلاء الذين شبوا عن الطوق قبل خمسين عاماً أن الأطفال كانوا نادراً ما يلتقون بشخص ينتمي إلى خلفية ثقافية أو إيمانية مختلفة، أما اليوم، فعندما أقف في الملعب الذي يذهب إليه ابني الذي يبلغ من العمر عشرة أعوام، أو حين أنظر إلى أصدقائه في حفل عيد ميلاده، فإنني أجد لغات وخلفيات إيمانية وألواناً لا تعد ولا تحصى.

وأنا شخصياً أبتهج لهذا كثيرا، ولكن مثل هذا العالم يتطلب حلول الاحترام المتبادل في محل الشك المتبادل، وإن هذا العالم يقلب التقاليد رأساً على عقب ويتحدى أساليب التفكير القديمة، ويرغمنا على الاختيار بوعي إما أن نقبل به وإما لا نتقبله.

والأمر يشتمل على مشكلة عويصة: ففي نظر البعض تشكل هذه القوة تهديداً، فهي تهدد المجتمعات المحافظة بشدة، وبالنسبة لهؤلاء الذين تهمهم المسائل الدينية، فإن العولمة من الممكن في بعض الأحيان أن تكون مصحوبة بعلمانية عدوانية أو مذهب المتعة الذي يجعل العديد من الناس يشعرون بعدم الارتياح والانزعاج الشديد.

يتعين علينا إذن أن نفهم كيف يتفاعل عالم الإيمان مع الطابع القهري للعولمة، ورغم ذلك فإن ما نكرسه من وقت السياسة أو من طاقاتنا لتحقيق هذه الغاية ضئيل إلى حد غير عادي. إن أغلب الصراعات في عالم اليوم تنطوي على أبعاد دينية، فالتطرف الذي يستند إلى صورة منحرفة من الإسلام لا يبدي أي إشارة إلى الانحسار أو التراجع؛ بل إنه لن يتراجع إلى أن يتم التعامل معه دينياً، فضلاً عن التدابير الأمنية.

والواقع أن هذا التطرف ينتج على نحو بطيء ولكنه ثابت ردود أفعال خاصة به، كما نرى في المكاسب الانتخابية التي حققتها في أوروبا أحزاب سياسية كارهة للإسلام، والتصريحات الصادرة عن زعماء أوروبيين والتي تزعم أن التعددية الثقافية أثبتت فشلها.

إن الدين كان بطبيعة الحال يشكل جزءاً من الصراع السياسي طيلة التاريخ، ولكن هذا لا يعني أن الدين لا بد أن يُحارَب، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، فهو يتطلب قدراً من التركيز الخاص، ولقد أدركت هذا بكل وضوح حين أمضيت وقتاً طويلاً في القدس- الشرقية والغربية- حيث وجدت زيادة مؤكدة في التدين.

لقد أنشأت «مؤسسة الإيمان» بهدف خلق قدر أعظم من التفاهم بين الأديان، والمنطق الذي أستند إليه في هذا بسيط، فإن هؤلاء الذين يدعون إلى التطرف باسم الدين نشطون ومجهزون بالموارد بشكل جيد- أياً كانت الطبيعة الرجعية لفكرهم- وغاية في البراعة في استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، وطبقاً لتقديراتنا فإن مليارات الدولارات تكرس كل عام للترويج لهذه النظرة إلى الدين.

لذا فإن مؤسستي تدير برنامجاً جامعياً- في تسع دول الآن- مصمماً لكسر احتكار مدارس اللاهوت للدين والبدء بتحليل الدور الذي يلعبه في العالم اليوم، ولدينا أيضاً برنامج آخر- في خمس عشرة دولة، ومن المنتظر أن تلتحق به دول أخرى أيضاً- يربط بين طلاب المدارس الثانوية في أنحاء العالم المختلفة عبر تكنولوجيا تفاعلية لمناقشة عقائدهم الإيمانية وما تعنيه بالنسبة لهم. هذا فضلاً عن برنامج عمل يقوم من خلاله الشباب بالعمل مع أصحاب الديانات الأخرى على رفع الوعي بالأهداف الإنمائية للألفية، وهو البرنامج الذي تقوده منظمة الأمم المتحدة لمكافحة الفقر في العالم.

إن مؤسستنا ليست أكثر من منظمة واحدة، وهناك منظمات أخرى تبدأ العمل في نفس المجال، ولكن يتعين على الحكومات أن تبدأ بالتعامل بقدر أعظم من الجدية مع هذا التوجه الجديد. والواقع أن تحالف الحضارات، الذي بدأته إسبانيا وتركيا، يشكل أحد هذه الأمثلة، كما أظهر ملك المملكة العربية السعودية قدراً عظيماً من الزعامة في هذا المجال، ورغم ذلك فإن الأمر لا ينحصر في الجمع بين أشخاص رفيعي المستوى، بل لا بد أن تنزل هذه الجهود إلى القاعدة الشعبية للأمم، خصوصاً في وسائل الإعلام المؤثرة في شباب هذه الأمم.

وأخيراً، يتعين على الزعماء الدينيين أن يتقبلوا المسؤولية الجديدة: الوقوف بحزم وتصميم في إقناع أتباع أديانهم باحترام هؤلاء الذين يدينون بديانات مختلفة، والواقع أن العلمانية العدوانية والتطرف يتغذى كل منهما على الآخر، ويشكل الجانبان تحدياً حقيقيا لأهل الإيمان الحقيقي، ويتعين علينا أن نظهر الطبيعة المحبة للإيمان الحقيقي؛ وإلا فإن الدين قد يتحول إلى ساحة معركة، حيث يستولي المتطرفون على الجماعات الدينية، وحيث يزعم العلمانيون أن مثل هذه التوجهات تكمن في جوهر الدين.

وإنها لمأساة مفجعة أن ينتهي الأمر إلى هذه الحال، ففي هذا العصر من العولمة يستطيع الإيمان الديني أن يعمل كسبب للتقدم في المقام الأول، إن الدين ليس في طريقه إلى الزوال، ولا ينبغي له أن يزول... فالعالم في أشد الحاجة إلى الإيمان الحقيقي.

* توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة من 1997 إلى 2007 وهو رئيس مبادرة الحكم لإفريقيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»