نشرت مجلة «فوربس العربية» في 2008 قائمة لنجوم الدعاة الأكثر دخلاً في العالم العربي، الذين تأتي مصادر ثرواتهم من الأنشطة الدعوية كالمقابلات التلفزيونية والتسجيلات الصوتية والمحاضرات، فقد ازدهرت بضاعتهم وراجت في الفضائيات ووسائل الإعلام، وأصبحوا يتنافسون كمشاهير الفنانين على الأجور الأعلى والظهور الحصري في القنوات المختلفة، لاسيما في شهر رمضان الكريم، فارتفعت أسعار الوعاظ الذين نصبح ونمسي على دعوتهم إلى الزهد والتقوى وعمل الخير «دون مقابل»، حتى حفظنا ما يقولونه عن ظهر قلب إلا أننا لا نطبقه على أرض الواقع، بل إننا من أكثر المجتمعات كذباً وغشاً ونفاقاً وتكسباً من المناصب (كالتوظيف السياسي الذي تمارسه الحكومة وممثلو الأمة، وآخر ذلك تدخل نائبة لتعيين زوجها في منصب قيادي مخالفاً لقانون الاختصاص)، فالأخلاق في تقهقر وقيم العمل في انحدار وثقافة المواطنة في انحلال وداء الطائفية في استفحال وأوطاننا لاتزال تتصدر قائمة الأكثر فساداً في العالم، بالإضافة إلى تصدرنا قائمة الأكثر ارتكاباً لجرائم الاعتداء على المال العام والمخدرات والضرب والسب (حسب جريدة القبس)، فلماذا لا يكون هؤلاء الوعاظ قدوة في المسؤولية الاجتماعية ويتبرعون بشيء من ثرواتهم الطائلة لمشاريع خيرية تخدم الإنسانية، كما تبرع 40 ثرياً في أميركا، بالتنازل عن نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية، كبيل غيتس الذي تبرع بـ26 مليار دولار «لخدمة الصحة في الدول الفقيرة ولتحسين فرص الأميركيين في مشوارهم الدراسي وفي الحياة عموماً»؟ فماذا قدم وعاظنا الذين يتكاثرون كالفطر إلى المجتمع؟ ولماذا نغرق في ثقافة الوعظ بينما تعاني مجتمعاتنا أزمة أخلاق مزمنة وفساداً مستفحلاً؟

Ad

أجاب عن هذا السؤال قبل حوالي 60 عاماً عالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي، فالوعظ «الأفلاطوني» المجرد في رأيه لا يأتي بالصلاح والإصلاح دون دراسة «نواميس» المجتمع و»ما جبل عليه»، فالإنسان نتاج بيئته الاجتماعية لا كما يعتقد «القدماء» أنه يسير وفق المنطق المجرد. والوعاظ كما يقول «كثيراً ما نراهم يُطالبون الناس في مواعظهم بأن يُغيروا من نفوسهم أشياء لا يمكن تغييرها، فهم بذلك يطلبون المستحيل، وقد أدى هذا بالناس إلى أن يعتادوا سماع المواعظ من غير أن يُعيروا لها آذاناً صاغِية»، فالوعظ في رأي د. الوردي إذا كان ينشد تغيير السلوك البشري بعيداً عن أعراف المجتمع وقيمه، حتى وإن أتى بالبراهين «العقلية والنقلية»، فستنتج عنه أضرار بالغة كالصراع النفسي الذي يتطور فيغدو حالة عامة من ازدواج الشخصية.

ولكي نفهم الطبيعة البشرية «كما هي في الواقع» بعيداً عن الخيال والتجريد اللذين تأتي بهما ذهنية الوعظ، علينا أن نطبق المنطق الحديث ذا المنهج الاستقرائي النسبي ونتخلى عن المنطق القديم الجامد الذي يعتمد عليه الوعاظ في استنباط النتائج من المقدمات البديهية، والذي يستهلكه الطائفيون في إثبات صحة مذاهبهم من خلال تطويع النتائج حسب المقدمات البديهية التي يضعونها، ليرد عليهم الطرف الآخر بنفس المنطق القديم غير العلمي.

لقد فهم العالم المتحضر بالمنطق الحديث أسرار السلوك ومفاتيحه فنزلوا إلى الواقع و»اكتشفوا قوانينه»، فترسخت القيم في المجتمع أولاً ومن ثم انتقلت إلى الفرد. أما في عالمنا الساكن الآسن فقد دأب الوعاظ منذ صدر التاريخ إلى يومنا هذا التحليق في السماء بعيداً عن أرض الواقع.