رسالة ميت 
لم يمت

نشر في 27-09-2010
آخر تحديث 27-09-2010 | 00:00
 فوزية شويش السالم «أيّها المارُّ من هنا كما أنت الآن كنت أنا... وكما أنا الآن ستكون أنت... فتمتع بالحياة لأنك فانٍ».

كانت هذه الكلمات من القوة، بحيث سحبتني وجرّتني من حبال روحي إلى مدينة «أم قيس»، أو ما كانت تُسمَّى قديماً بـ»جدارا»، كلمات تملك طاقة وقوة روحية رهيبة منبعثة منذ آلاف السنين، كتبها الشاعر الروماني «أورفيوس» الذي عاش في مدينة جدارا التي تُسمَّى اليوم بأم قيس، نُقِشت هذه الكلمات على قبره، أم قيس الواقعة على التلال المطلة على سهل الجولان السوري المحتل من قِبَل «إسرائيل»، وعلى النهر الذي يفصل بين الأردن وما بينها.

على هذه البقعة النفيسة التي مرت عليها كل الحضارات، وعبرت من هنا أزمنة مختلفة من العصر البرونزي المتوسط، إلى العصر الحديدي، العصر الهلنستي، العصر الروماني، البيزنطي، الآشوريين، الكلدانيين، الفرس، اليونان، الرومان، ومرور الأنبياء ومنهم المسيح عليه السلام الذي مر على مدينة جدارا ومن ثم ذهب ليعيش في مدينة الناصرة.

كلمات نُقِشت على قبر ميت سار في طريق مدينة محاطة بأعمدة في غاية الجمال، متوجة بتيجان كورنثيه وتماثيل منحوتة بالرخام والبازلت الأسود الذي خلفه بركان ضرب المدينة من قبل التاريخ الميلادي، واستفاد منه الرومان في بناء مدينتهم على أكمل وجه، وحين مشيت في هذه الطريق بعد ألفَي عام من موت الشاعر، وجدت نفسي مأخوذة فيه كما كان شاعرها الروماني مأخوذاً بها ومازالت روحه ترفرف هناك وتوصي العابرين بأن يستمتعوا به وبالحياة التي يحيونها، لأنهم عاجلاً سيغادرونها مثلما غادرها.

هذه المدينة التي رغم الإهمال الذي تعانيه، لم يُمحَ جمالها الغابر، وهي واحدة من تلك الآثار العظيمة التي مازالت على قناعة تامة بأن الرومان أينما تدب قدمهم تُعمّر الأرض، فالعالم مرت عليه حضارات كثيرة أغلبها حصرت في موطنها ولم تتخطَه مثل الحضارة الفرعونية، وحضارة «المايا» وغيرها كثير بعضها عاش في موطنه والبعض الآخر طمره الزمن وجاء ذكره في التاريخ، لكن حضارة الرومان تخطت مكانها ودارت حول العالم وفي كل مكان حطت فيه تركت أثراً لها في الفن والمسرح والعمارة، وتشهد لهم بذلك المدرجات والحمامات المترفة والأدوات الموسيقية، والنقش بالموزاييك، والنحت بالرخام، وكل ما خلفوه بقي صامدا عبر كل العصور، حتى إن انطفأت مصابيح كل الحضارات بقيت حضارتهم وحدها سيدة كل الحضارات ومحط أنظار العالم.

لكن للأسف في مدينة أم قيس لم تجد الآثار الرومانية الاهتمام والرعاية والصيانة الكافية لهذه الكنوز التي خلفها الرومان للبشرية كلها، فلا توجد منشورات أو جداريات تشرح للسائح ما يراه، والمرشدون معلوماتهم على البركة، وعلى الزائر أن يأتي مزوداً بمعلومات الإنترنت.

ليست أم قيس وحدها تعاني الإهمال، فهناك المدرج الروماني الذي لا توجد أي كتيبات تدل على تاريخه، ما عدا الكلمات المكتوبة على بلاطات الفسيفساء البيزنطية، والغرف غيرت سيرة المكان وحولته إلى فلكلور أردني بخيام البدو والجمال ومعداتهم، تاريخ إنسانية انقضت وملك لكل الإنسانية القادمة فيجب احترامها.

آثار عظيمة نستطيع أن نتعلم منها تاريخ حضارة بأكملها من جغرافية المكان وتاريخه، وحياته الاجتماعية والدينية والثقافية وكل ما يعود إلى زمنه، نستطيع أن نستشفه من قطعة زجاج أو معدن أو رخام.

وفي النهاية لا يبقى إلا الحجر، وعندما وقفت تحت أعمدة «هرقل» أول ما خطر على بالي هو أن أسجد لعظمة وخلود الحجر، ولولا إيماني العظيم بخالق هذا الحجر الذي منحه هذا الخلود لمازلنا نسجد لجبروت هذا الحجر.

ولا ننسى أن نودع أهل «الرقيم» الذين جاءت سيرتهم في سورة الكهف، ومازالت قبورهم الصامتة تحكي حكايتهم... كيف؟ اسألوا الحجر.. فالإجابة مرهونة عنده، وعند جلالة خلوده الساكنة في جمودها المحير والغامض. 

back to top