على الرغم من تطرف هذه القصة شيئا ما، فإنها تكشف وتضع يدها على كثير من الزيف والعبث والمجاملات، مما تعج به الساحة الفنية والثقافية في وقتنا الحالي، ومن هذا، مثلا، أن كثيرا ما يسمى اليوم بالفن التشكيلي هو مجرد شخابيط عشوائية، ومساحات لونية خالية من أي معنى مقصود. خذوا عندكم هذه القصة الحقيقية الطريفة التي قرأتها منذ سنوات، جاء أحد الصحافيين بقرد وأعطاه لوحة فارغة وألوانا، وجعله «يشخبطها» كيفما اتفق، وبعد أن انتهى القرد «الفنان» من لوحته، قام الصحافي بتصويرها ونسخها ومن ثم توزيعها على النقاد والكتاب والشعراء بدعوى أن صاحبها أمير خليجي، وقد أسماها «أميركا والعالم» وأنه يعتزم عرضها في لندن، ولهذا الغرض ينوي إصدار كراسة تعريفية لها ويحتاج إلى من يكتب فقرات ومقالات عنها على أن تنشر في هذه الكراسة المقترحة. وهنا بدأت المسرحية الفكاهية!

Ad

كتب شاعر معروف قائلا بأنها «غيوم من الموسيقى والإيقاع اللوني الهادئ في صخبه، والصاخب في هدوئه»! وأنه «يقف مبهورا أمام هذه الطهرانية وشفافية الروح التي تعثر على بلاغتها الساحرة في التجريد والإيماء»! وكتب آخر أنه «يقف أمام هذه اللوحة مكتويا بحرائق اللون، وأمام تجربة تشكيلية باذخة في رؤاها وتبحث عن إطار تعبيري مختلف، وهي تتقدم إلى متلقيها مسكونة بحرية فائقة وتأخذنا إلى تخوم التجريد المطلق»! وقال ثالث إنه وجد في اللوحة «رفضا لونيا أو إدانة ضوئية متوهجة عبر تجريد ذي بعد فلسفي عميق يحرص على تكريس قيم مواجهة ومقاومة لهذا التوحش الحضاري المتكئ على القوة والافتراس»! بينما كتبت فنانة تشكيلية معروفة قائلة «إن مبدع اللوحة ترك مساحات بيضاء لإشاعة الأمل والبهجة تأكيدا لجمال وروعة الحلم، فالفنان يدعونا إلى إعادة قراءة الواقع، ويبدو كأنه يبحث عما هو أعمق من حدود المعرفة المتاحة»! وكتب زميل لها قائلا بعدما قرأ اللوحة قراءة متأنية إنها «خطوط وألوان بعثرت بشكل فلسفي عميق يشير بكل ثقة وجرأة من خلال ألوانها المتداخلة والمتضادة، إلى طبيعة العلاقة التي تحكم أميركا والعالم»!

ولكي يكمل الصحافي «القرداتي» مقلبه، عرض اللوحة بعد ذلك على طبيب نفساني، فقام الأخير بدراستها بإمعان وخرج بتحليل قال فيه «إن اللوحة تشير إلى أمرين: أولهما أن هذا الفنان يزدحم عقله بثقافات مختلفة وكثرة اطلاع وثانيهما أنه متشائم بدرجة كبيرة... وتشير طريقة الرسم إلى أنه كان يمر بقلاقل نفسية نتيجة مشاحنات أو مشكلات عائلية... لكن المثير في الفنان أنه يعاني أعراض فصام عقلي أصيب به في بداياته من كثرة قراءاته واطلاعه على تجارب الآخرين»!

بعد كل هذا الإبداع «الحلمنتيشي» الذي خرج به الشعراء والفنانون والنفسانيون قام الصحافي بنشر القصة كاملة في مجلته، فثارت ثائرة القوم، وتملصوا مما قالوا!

هذه القصة، وعلى الرغم من تطرفها شيئا ما، فإنها تكشف وتضع يدها على كثير من الزيف والعبث والمجاملات، مما تعج به الساحة الفنية والثقافية في وقتنا الحالي. ومن هذا، مثلا، أن كثيرا ما يسمى اليوم بالفن التشكيلي هو مجرد شخابيط عشوائية، ومساحات لونية خالية من أي معنى مقصود ابتداء، وكذلك أن كثيرا من التعليقات والكتابات التي نراها وقد نشرت على إثر هذه «الشخابيط»، سواء أكانت رسما أو ربما شعرا أو حتى نثرا، هي من قبيل المجاملات الكاذبة الفارغة في الحقيقة، وأن كل واحد من هؤلاء «المبدعين» يحك ظهر صاحبه، من باب أنه لا يخدم بخيل!

إن ما يحصل اليوم، أشبه ما يكون بسيرك كبير يا سادتي.. سيرك مليء بكثير من القرود والنسانيس.. والببغاوات.. والزمارين والمطبلين.. والراقصين!