على ضوء طفرة من العناوين الرئيسة التي ظهرت على مر الأيام الماضية، فوجئ الأميركيون بلمحات مختصرة ومتناقضة على ما يبدو حول كيفية ممارسة الصين قوتها الناشئة حديثاً.

Ad

فقد تفاجؤوا بالصين، الدولة المجاورة المتنمرة التي قررت وقف السماح لليابان بالحصول على معادن الأرض النادرة ما لم تطو طوكيو صفحة أحد الخلافات البسيطة، إنما القديمة، حول الأراضي.

كذلك فوجئوا بالصين، تلك المحاورة المفحمة التي بذل رئيس وزرائها، وين جياباو، كل ما في وسعه يوم الخميس لصرف نظر الرئيس أوباما عن الضغوط الخاصة بقيمة العملة الصينية، وهي معركة فعلية بينهما حول ما إذا كانت الوظائف ستكون من نصيب عمال سياتل أو شينزين... ولقد أجرى الزعيمان محادثات لساعتين في الأمم المتحدة، لكن لم يتضح ما آلت إليه.

من ثم فوجئوا بالصين، الدولة الواقعية التقليدية التي ارتأت معارضة العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية وإيران بالطريقة الملائمة سعياً منها إلى موازنة مصالحها القومية المتضاربة (أولاً كسب دعم الغرب في مجلس الأمن، وثانياً، ضمان الحصول على النفط ومنع دولة تابعة من الانهيار).

منطقياً، لا عجب أن تبحث قوة ناشئة عن وسائل ماكرة لمعالجة مشاكلها المعقدة، لكن قبل أن تتحول الصين بشكل بارز من دولة فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، كانت تؤكّد، عبر موقفها الضمني على صعيد السياسة الخارجية، مبدأ عدم التدخل في شؤون الأمم الأخرى وتسلط تركيزها إلى حد كبير على الدول المجاورة لها.

كان ذلك قبل أن تمتلك الموارد العسكرية والدافع لبدء التفكير في كيفية ضمان مصالحها في أنحاء العالم والدفاع عنها. فهي تسعى اليوم إلى الحصول على النفط الموجود في أماكن مثل السودان وإيران، نقل بضائعها بشكل آمن في أنحاء القرن الإفريقي، وإلى التمتع بالقدرة على التلاعب بقيمة عملتها بما يصب في مصلحتها.

للمرة الأولى، يشهد العالم مجموعة مختلفة من السلوكيات في أماكن نادراً ما خطرت في بال الصين منذ عشرين عاماً، بدءاً من العدائية، إلى العدائية السلبية، فالدبلوماسية.

لذلك يترتب على الدبلوماسيين والمحللين الأميركيين اليوم اكتشاف الدوافع وراء أفعال الصين وردود أفعالها، وكيفية محاولة تشكيلها، وبحسب البعض، والقيود التي يجب السعي إلى فرضها.  

في هذا الإطار، يقول ديفيد تشامباو، مدير برنامج السياسة الصينية في جامعة جورج واشنطن: «الصورة التي أمل الرئيس أوباما أنه وجدها منذ عام في الصين، أي هذه القوة العالمية الكبرى المتعاونة في أهم المسائل المستجدة راهناً، لا تعكس حقيقة الصين التي يتعامل معها اليوم».

من جهته، يقول أحد المسؤولين البارزين في الإدارة الذي غالباً ما يتعاطى مع القيادة الصينية: «حين بدأ (الصينيون) بإدارة داعميهم الكثر، بدت سياستهم شبيهة إلى حد كبير بسياستنا».

إليكم تقريرا استطلاعيا حتى الساعة حول أسلوب الصين في استعراض عضلاتها:

الجوار: حان الوقت للاستعراض الكبير للقوّة

منذ عقود والبلدان الآسيوية تنظر بعين الحذر إلى بروز الصين المتجدد، بالنظر إلى عدد السفن والصواريخ التي كانت تستحصل عليها، وكيفية استخدامها نفوذها كمستثمر. منذ عقد من الزمن، حين تسلّم الرئيس جورج بوش الرئاسة، حثّه عدد من المحافظين الجدد على «احتواء» طموحات الصين المفترضة.

لكن الاحتواء كان على الأرجح مستحيلاً، وأثبت عدم جدواه أقله خلال العقد الماضي. حتى الساعة، لم تدافع بكين عن مطالبات جديدة بالأراضي، إنما بدأت فحسب الدفاع عن مطالبات قديمة بأراض واقعة في أماكن ذات كثافة سكانية منخفضة.  

تدخل اليابانيون في إحدى تلك المطالبات عندما اعتقلوا ربان سفينة صيد صينية بالقرب من مجموعة جزر في بحر الصين الشرقي، تُدعى سنكاكو حسب التسمية الصينية، ودياويو حسب التسمية اليابانية. قال اليابانيون إن السفينة اصطدمت بمركب تابع لخفر السواحل اليابانية. منذ سنوات، كان يمكن تسوية المسألة بهدوء بين قنصليتي البلدين، إنما ليس هذه المرة.

طالب الصينيون بعودة الربان، بحض ربما من جيش التحرير الشعبي، أو بدافع اللهفة إلى البدء بإعلان مبدئهم المرادف لمبدأ مونرو. وحين رفضت اليابان، بدأت الصين، انطلاقاً من حسّها القومي، بإعاقة شحنات معادن الأرض النادرة، وهو إجراء هدد قطاع الإلكترونيات في اليابان.

يعقب تشامباو: «راق ذلك لمؤيدي (آسيا أولاً) في الصين»، في إشارة منه إلى فصيل في الصين يعتبر أن المسار الحكيم يقضي بالسيطرة على المنطقة وتجنب دخول صراعات مع قوى عظمى في الوقت عينه. يُذكَر أن خلافات اندلعت في الأشهر الأخيرة حول تدريبات أميركية في المياه المجاورة وعلى طول الحدود مع الهند.

من جانبه، ذكر أحد المسؤولين البارزين في الإدارة، الذي شرح سبب إرسال الولايات المتحدة حاملة طائرات إلى المنطقة: «لذا بدأنا التحرك لصد أي هجوم».

لكن اليابانيين، بعد عشرين عاماً من الركود، لم يعودوا يتمتعون بأي طاقة، إذ أسقط المدعي العام التهم يوم الجمعة.

واشنطن: فن المراوغة

إن كانت الاستراتيجية التي تعتمدها الصين تجاه آسيا تقوم على الفظاظة، فاستراتيجيتها تجاه الولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على التهذيب والمراوغة في معظم الأحيان.

حين التقى أوباما رئيس البلاد، هو جينتاو، للمرة الأولى، كانت نار الأزمة على وشك التهام اقتصاديهما، لذا واصلا تطبيق الاستراتيجية المشتركة القائمة على الحوافز الضخمة. خلال معظم عام 2009، أشار أحد كبار مستشاري أوباما: «تمت تنحية جميع القضايا الأخرى جانباً».

من ثم بصعوبة تفاديا الدخول في صدامات بشأن السياسة البيئية في كوبنهاغن بينما اتُهمت الصين بشن هجوم إلكتروني على «غوغل»، لكن مماطلة الصين في الإيفاء بوعدها بالسماح تدريجياً للسوق بتحديد قيمة عملتها هي التي أدت فعلاً إلى توتر العلاقات. غالباً ما تُتّهم الصين في الكونغرس الأميركي، عن صواب أو خطأ، بالتلاعب بعملتها للحفاظ على نشاط مصانعها، على حساب العمال الأميركيين. لذلك يدعو الديمقراطيون والجمهوريون إلى فرض تعرفات عليها.

حتى الساعة، يبدو أن الصين تهدف باستراتيجيتها إلى الحفاظ على مظاهر الدبلوماسية الروتينية والمماطلة في الوقت عينه. فقد استخدم رئيس الوزراء، وين، كلمة «تعاون» أو «تعاوني» ست مرات في بضع دقائق خلال وقوفه بجانب أوباما في الأمم المتحدة، لكن حين أُغلقت الأبواب، حثته الولايات المتحدة على التحرك الفوري، وبحسب أحد الشهود، راح وين «يراوغ»، مكرراً الحجج بأن بناء قوة اقتصادية يستغرق أجيالاً.

في هذا الإطار، لفت جيفري بادر، مدير الشؤون الآسيوية في مجلس الأمن القومي، إلى أن الرئيس عبر «عن خيبة أمله لعدم اتخاذ أي إجراءات تُذكر» منذ التقيا آخر مرة، لكن ضغوطه لم تكن كافية، لذا هدد البيت الأبيض باللجوء إلى خطوات أخرى، وها هم الصينيون اليوم يحاولون تخمين ما كان يقصده.

حالتان استثنائيتان... كوريا الشمالية وإيران

تتصادم الحتميات المحلية للصين مع مصالحها كقوة عظمى في كوريا الشمالية وإيران. فإذا كان هدف الولايات المتحدة الأساسي تجريد كوريا الشمالية من أسلحتها النووية، فإن الصين تهدف إلى الحفاظ على استقرار كوريا الشمالية. برأي الصينيين، إن تداعت هذه الأخيرة، فستتقدم كوريا الجنوبية (وحلفاؤها الأميركيون)، حتى الحدود الصينية على الأرجح. ذكر أحد المسؤولين الاستخباراتيين الأميركيين هذا الأمر أخيراً بالقول: «إن كان على الصينيين الاختيار بين العيش مع دولة كورية شمالية نووية شبه جنونية أو في ظلنا، فسوف يختارون الأول».  

ذلك لا يعني أنهم سعيدون بهذا الاختيار... اتسعت معرفة «جيمس تشيرتش»، الاسم المستعار لمؤلف رواية التجسس التي صدرت أخيراً حول كوريا الشمالية The Man With the Baltic Stare، بالبلاد حين كان ضابط استخبارات. قال في إحدى المقابلات: «لعل الصينيين لا يحبون الكوريين الشماليين كثيراً، لكن ثمة الكثير من العناصر الجغرافية والتاريخية والعاطفية التي تجمع بينهما وتشكل الفكر الصيني»، ما يمنع بكين من التخلي عن الدولة التي تعتمد عليها منذ زمن طويل، لاسيما إن كان ذلك يعني سيطرة كوريا الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة، على كوريا الشمالية.

وهكذا في عام 2009، بعد الاختبار النووي الثاني الذي أجرته كوريا الشمالية، رأت الصين أنه من مصلحتها تأييد العقوبات ضد بيونغ يانغ. لكن هذا العام، حين حاولت الولايات المتحدة مجدداً فرض عقوبات على كوريا الشمالية لضلوعها على ما زُعم في إغراق سفينة حربية تابعة لكوريا الجنوبية، تغير الوضع: كانت صحة جيم يونغ إيل، الحاكم الدكتاتوري للشمالية، متدهورة، والصين بحاجة إلى ممارسة نفوذها على ابنه ووريثه المفترض، كيم يونغ أون، لإبقاء كوريا الشمالية تحت سيطرتها. لذلك سعى الصينيون إلى إضعاف المساعي الجزائية، وعلى حد قول الدبلوماسيين الأجانب، أقاموا حفلة انتصار صغيرة مع الوفد الكوري الشمالي.

أما إيران، فهي حالة استثنائية أخرى. تستورد الصين 12 في المئة من نفطها من هذه البلاد؛ وبالرغم من موافقتها على العقوبات، حرصت كذلك الأمر على أن تُستثنى وارداتها وصادراتها من الطاقة من لائحة الأمم المتحدة. يجري الحديث اليوم بشكل ثابت عن قيام الصين باستثمارات جديدة وعلى المدى الطويل في مجال الطاقة في إيران. لكن حتى هذه اللحظة، لم تُستكمل الكثير من تلك الاتفاقات. وحين يشير المسؤولون الأميركيون إلى أن أي مواجهة مع إيران بسبب طموحاتها النووية قد تخل بتدفق النفط من الخليج العربي، يقول الصينيون إنهم على يقين بأن الأمر لن يبلغ ذلك الحد.

نحن إذن أمام لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد تجري وفق الشروط الصينية.

David E. Sanger