لطالما كنت، في كتاباتي وأحاديثي، أردد مصطلح «مؤسسات المجتمع المدني»، مشيراً بذلك إلى جمعيات النفع العام والهيئات الخيرية والنقابات المهنية والتجمعات التطوعية وغيرها من المؤسسات غير الحكومية وغير الربحية أيضاً التي تنشط في بلادي.

Ad

ولا أخفيكم أني كنت دوما أستشعر شيئا من الفخر، أو شعورا مشابها لهذا، عندما يسري هذا المصطلح على لساني، وكأني به يعطيني شعورا بالاطمئنان إلى رسوخ ديمقراطيتنا وثباتها إلى حد ما، لكون وجود هذه المؤسسات هو النقيض تماما لفكرة «الشمولية»، وبالتالي وجود التحرر، أو شيء منه، من سيطرة السلطة على كل شيء، وقيام الناس ديمقراطيا بممارسة دور مفترض بهم في إدارة شؤون مجتمعهم، وملء جوانب مجتمعية كبيرة من المساحة ما بين دور المواطن الفرد (أساس المجتمع ومصدر السلطات) ودور السلطة. ولكن شعوري هذا تلاشى، إلى حد كبير، منذ مدة ليست ببعيدة عندما أعدت التفكير في معنى المصطلح ودلالاته وقارنته بواقعه الموجود عندنا.

ابتداء، تقوم فكرة مؤسسات المجتمع المدني على الانفصال التام عن سيطرة السلطة، بحيث تتمكن من ممارسة دورها الشعبي الحر بمعزل عن الإملاءات والتسيير الحكومي، في حين أن واقع كثير، بل أغلب، ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني عندنا، يفيد بأنها تتلقى إما دعما ماليا مباشرا من الحكومة، كجمعيات النفع العام، وإما أنها واقعة تحت سيطرة السلطة وتغلغل نفوذها فيها من خلال استحلال مجالس إداراتها، وبالتالي إحكام السيطرة على قراراتها وأنشطتها، وهذا الأمر، ودون حاجة ولو إلى قليل من ذكاء، سيكشف أن هذه المؤسسات بلا فاعلية ديمقراطية شعبية حقيقية، بل حقيقة تحولها إلى أدوات سلطوية ترتدي قناعا زائفا.

الأمر الآخر، يقول المفكر الإيطالي روبرت بوتنام في عبارة حاوية لفكرة مهمة جدا: «كلما وجدت مؤسسات المجتمع المدني تؤدي دورها كانت الديمقراطية أقوى وأكثر فعالية»، إذن فالوجود بحد ذاته ليس كافيا، بل هو مقرون بقيام هذه المؤسسات لزاما بأداء دورها المفترض، وهنا نقف عند محك صعب. فلدينا في الكويت أكثر من خمسين جمعية نفع عام، وهي التي لطالما أسميناها مؤسسات مجتمع مدني، لكن في الحقيقة لا يتحرك منها ولا يقوم بأنشطة طوال العام إلا القليل الذي لا يتجاوز عدده أصابع اليدين. ومن هذا القليل، لا يقوم بأنشطة حقيقية ذات قيمة فعلية للمجتمع المدني والحراك الديمقراطي، إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة! والفكرة هنا واضحة جدا، ما لدينا ليس جمعيات نفع عام أو مؤسسات مجتمع مدني، بل مجرد مبان ومجالس إدارة بلا وجود حقيقي.

وأمر آخر أيضا، مصطلح مؤسسات المجتمع المدني، يقوم على فكرة المدنية أو التمدن، وهذه بطبيعة الحال، تقوم على فكرة الوجود تحت مظلة دساتير وقوانين ولوائح منظمة، وبالتالي وكما هو واضح، يجب أن تقوم على فكرة المواطنة الحقة، والولاء التام للدولة، لا للفئات المجتمعية الأصغر، أيا كان شكلها ومسماها.

إذن فقيام مؤسسات المجتمع المدني واستمرارها في الوجود يجب أن يكون مقترنا بتعزيزها لحالة «المواطنة» الحقيقية، وبإعلاء قيم المدنية، كلٌّ من جانبه وفي تخصصه، وهنا، وبنظرة عجلى إلى واقعنا، سنجد أنها لم تقم بدورها المفترض على هذا الصعيد، بل لعلي لا أتردد في القول إن كثيرا من هذه المؤسسات قد ساهمت في ما من شأنه معاكسة هذا المسار في كثير من الأحيان. هذه النقاط، وغيرها كثير لا يتسع له المقال لضيق المساحة، جعلتني اليوم أقول: في الحقيقة لا مؤسسات مجتمع مدني لدينا بالقدر الذي يجعلني أطمئن، كما كنت منخدعا في السابق، إلى وجودها كأحد صمامات الأمان لديمقراطيتنا، لكنني سأقول إن لدينا بضعاً من المؤسسات التي تقوم بجهد لا بأس به، وربما أقل من ذلك، وإنها قد تشكل نواة لعمل مؤسساتي مجتمعي مدني حقيقي لو هو تم تفعيلها بشكل صحيح ومتطور.

رسالتي الأهم من كل هذا، هي أننا كنا طوال الوقت نوجه اتهاماتنا، وهي اتهامات مستحقة قطعا، إلى السلطة بأنها المسؤولة عن تفتيت المدنية وتشويه الديمقراطية والقيام بكثير من الممارسات التي أضعفت من المواطنة الحقة في وجدان الناس، إما جهلا منها وإما تقصداً وللأسف، ولكننا مطالبون اليوم، بالتوقف والنظر إلى موضع أقدامنا، والتفكر في مؤسساتنا المجتمعية الآخذة بالتكاثر البكتيري، والتي يفترض أننا نحن من يقوم بتكوينها وإنشائها وإدارتها.

أين هي من كل هذا؟ هل هي تقوم بدورها في تعزيز المدنية والديمقراطية والمواطنة؟ هل هي مؤسسات مجتمع مدني حقيقية؟ أم أنها هيئات زائفة، بل هيئات مخترقة تعمل ضد المدنية والديمقراطية والمواطنة؟!

هذه أسئلة مهمة، بل مصيرية، صارت جديرة بالنقاش اليوم في ظل هذا الجمود التنموي في الكويت!