ثمن الكلمة
أعتقد -ولعله لا يجانبني الصواب- أن الكتابة كانت ولاتزال مهنة أو حرفة تستدعي جملة من المهارات والقدرات حالها حال غيرها من المهن والحرف. وهذا التلازم بين الكتابة والحرفنة المهنية عُرف عند العرب منذ أقدم العصور، وقد أشار إليه أبوهلال العسكري (920م-1005م) إشارة بليغة حين عنون كتابه الذي يبحث في تأليف النثر والشعر بعنوان: (كتاب الصناعتين)، ويعني بهما صناعة أو حرفة الكتابة والشعر.وبالمثل ربط العرب منذ الجاهلية بين كتابة الشعر أو نقل الرواية والخبر وبين الكسب أو التكسب، فامتهن أكثر الشعراء والرواة مهنة الشعر وتدوين الأخبار والروايات ونقلها وتسويقها بين القبائل والأمصار وكسبوا من ورائها أقواتهم وأرزاقهم. ويكفي أن نستشهد بالمتنبي مثالاً ناصعاً لتسويق الشعر والكسب المشروع من وراء موهبته الفذة.
وظل مفهوم (التكسّب) مفهوماً مشروعاً ومقبولاً ومسعى شريفاً، إلى أن غلب التصنّع والزخرف الفارغ على مهنة الكتابة في عصور الوهن والضعف، وغلب التملق والمداهنة والنفاق على مهنة الشعر، وفسدت كلتا الحرفتين بدخول الأدعياء ومتواضعي الموهبة والمتشاعرين. ومن هنا بدأ مفهوم (التكسّب) بالكتابة يتخذ منحى سلبياً، ويشير إلى حالة من القلق والارتباك إزاء الربط بين الكتابة والأجر! ولأن الكتابة في ثقافتنا العربية المعاصرة باتت نتاجاً وتعبيراً عن الذات المفكرة أو المبدعة، وهي أيضاً تعبير عن الموقف والرأي والمعتقد، ازدادت الحساسية إزاء الربط بين الكتابة في الصحف والدوريات أو التأليف، وبين طلب الأجر من الناشرين أو أصحاب المؤسسات الصحافية. الأمر الذي أفرز واقعاً غريباً ومجحفاً طرفاه: كتّاب يكتبون بلا مقابل أو لا ينالون غير الفتات، ومؤسسات صحافية أو دور نشر تستحوذ على كل شيء!! ويبدو أن ترويج المفهوم السلبي للتكسب من الكتابة، باعتباره عيباً وسبة، أتى ليصب في مصلحة المستثمرين وجيوبهم، بينما كبار كتّاب الزوايا والمقالات في معظم صحفنا السيّارة يزدادون تعففاً وكفافاً وترفعاً! وكم وددتُ لو تطوع أحد الدارسين بعمل استبيان يحصي فيه عدد الكتاب الصحافيين، وأيهم يكتب بأجر وأيهم يكتب بالمجان، ويقيني أن النتيجة ستكون مثيرة للعجب. أما الاستغلال لدى ناشري الكتب فحدّث ولا حرج! فلكي تنشر كتاباً لا يزيد على 300 صفحة، يلزمك الناشر أن تدفع ما لا يقل عن ألف دينار كويتي (نحو 3000$) من حرّ مالك، بغض النظر عن كون كتابك هو ثمرة جهدك وعرقك ووقتك! ولكي لا تغطس في مستنقع الخيبة والمرارة يترك لك الناشر في ذيل العقد ما مفاده أن لك 10 في المئة من أرباح ما يباع من الكتاب بعد عمر طويل وصبر مرير. وغالباً ما (تقبض من دُبَش)، وعوضك على الله في الألف دينار. حين استقراء ما يدور حولنا من أحوال العرض والطلب وتبادل وما ينتجه الإنسان من ثمار موهبته ومهاراته وخبراته المهنية، ابتداءً من الأجهزة الإلكترونية والسيارات والأثاث، وانتهاءً بالساعات والمجوهرات وأفانين العطور والملابس والكماليات، ندرك أن آلية الاشتغال على إنتاج هذه السلع وما يتطلبه ذلك من مهارة وموهبة وعلم وذوق، لا تختلف بأية حال عن الانكفاء على صناعة الكتابة ومحاولة الارتقاء بها إلى مراتب الجودة والتأثير. فليت شعري لمَ يُستكثَر على الكاتب أن يكون لسلعته ثمن وهي نتاج قريحته وثمرة جهده وفكره وفنه؟! هذا السؤال لم يعد يُسأل بكل هذه السذاجة والغفلة إلا بين ظهرانينا، ففي العالم المتحضر بات لكل شيء ثمن وقدر: المقابلات التلفزيونية والصحافية، والإدلاء بالرأي في وسائل الإعلام، ونشر المقالات، وتقديم المحاضرات، وعرض الخبرات... إلخ. أما عندنا فلايزال الميزان مقلوباً، ولا عزاء للغافلين أو (المغفّلين)!