نقلت إلينا الأخبار من العراق، ارتفاع وتيرة الإرهاب القاتل والمدمر. وكأن الإرهابيين لا يقيمون وزناً، ولا حُرمة لشهر رمضان الكريم، وأنه مفتاح، وباب للأشهر الأربعة الحُرم القادمة (ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرَّم، ورجب) وهم الذين يعلكون بالنصوص المقدسة ليلاً ونهاراً، ويلوون أعناقها، لكي تتناسب والأفعال الفاحشة التي يرتكبونها، والتي لا تقبل بها كل القيم الدينية والإنسانية. كما لا يقيمون وزناً للحال المعيشية المزرية والمُعذّبَة، التي أصبح فيها الشعب العراقي، نتيجة الجوع، والعطش، وتدني مستوى الخدمات، وانقطاع الكهرباء، وشح الماء، واستعمال أدوات الديمقراطية (الانتخابات) لإجهاض الديمقراطية- كما يقول المفكر الكويتي خلدون النقيب، في كتابه "آراء في فقه التخلف"- والاحتقان السياسي... إلخ.

Ad

الاحتفال الإرهابي بانسحاب القوات الأميركية

ففي الأسبوع الماضي، وبعد أن انسحب آخر القوات الأميركية المقاتلة، أطلق الإرهاب العربي والديني في العراق، مدافعه وتفجيراته، احتفالاً بهذه المناسبة التي سالت فيها دماء بعض العراقيين الأبرياء، وزُهقت أرواحهم، وكأنهم أكباش الفداء، لهذه المناسبة!

 فقالت الأخبار، إن العراق شهد في شماله وجنوبه سلسلة من التفجيرات، بالسيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، في بغداد، والبصرة، وكركوك، وديالى، وكربلاء، والكوت، والأنبار، ما أسفر عن مقتل 57 عراقياً، وإصابة أكثر من 300 آخرين، بينهم عناصر من الشرطة.

 فما الذي تريده هذه الأعمال الإرهابية، وماذا تريد أن تقول للعراق والعراقيين؟

هناك رسائل عدة، يريد الإرهاب في العراق، أن يبلغها لنا، بوضوح وصراحة، منها:

1 - أن الإرهاب السابق والحالي في العراق، ليس موجهاً ضد الاحتلال الأميركي، كما تزعم قيادات وعناصر هذا الإرهاب. وإنما هو موجه ضد مؤسسات "العراق الجديد"، خصوصاً الأمن الوطني منه. وكنا قد نشرنا سابقاً، وفي مقالات عدة، إحصاءات عن عدد الجنود الأميركيين الذي راحوا ضحايا لهذا الإرهاب، مقارنةً بعدد العراقيين. وكانت النتيجة أن عدد العراقيين، فاق كثيراً بمئات الآلاف عدد الجنود الأميركيين. وهو دليل قاطع- ولا يحتاج إلى أي نقاش- على أن الإرهاب "القومي" البعثي و"الديني" "القاعدي"، في العراق، إنما يستهدف في الدرجة الأولى "العراق الجديد"، ومؤسساته الوطنية، قبل أي شيء آخر. وأنه غير معني كثيراً بوجود "الاحتلال" الأميركي، الذي جاء إلى العراق بقرار سياسي عراقي، وخرج منه بقرار سياسي عراقي. وهو مثال غريب وعجيب من أمثلة "الاحتلال" العسكري في التاريخ البشري، وجدير بالدراسة، من قبل المختصين، الذين سيجدون فيه الكثير من الحقائق، والمعطيات السياسية، والعسكرية الجديدة، والمثيرة.

2 - أن جيران العراق، الذين يرسلون "رسائل الحب والغرام الإرهابية" إلى العراق، لا يعنيهم إن كان "الاحتلال" العسكري موجوداً، أم لا. فهم لا يستهدفون هذا "الاحتلال"، رغم خلافهم (سورية وإيران خصوصاً) السياسي العميق معه، ورغم زعمهم الكاذب بذلك. وإنما- كما ثبت ذلك ثبوتاً لا شك فيه- أنهم يستهدفون "العراق الجديد" بنظامه السياسي، وبديمقراطيته الابتدائية، والتي اختطفها السياسيون العراقيون، الذين نبتت في رؤوسهم وقلوبهم الدكتاتورية الطائفية والعشائرية، كما تنبت الأعشاب البرية في الخلاء. فتمسكوا بالكراسي السياسية، ورفضوا تداول السلطة، وقالوا ما معناه: "ما أخذناه لن نعطيه.. وها نحن هنا قاعدون إلى يوم يُبعثون". وهؤلاء الساسة، سيكونون السبب الرئيسي في عودة الانقلابات العسكرية، والانتفاضات الشعبية إلى العراق، احتجاجاً على وجودهم في السلطة وتمسكهم بها، واحتجاجاً على الاحتقان السياسي، الذي يزيد من محنة الشعب العراقي، وعذابه اليومي المستمر، طوال نصف قرن مضى، منذ عام 1960 إلى الآن. وبذا، سيتساوى العراق سياسياً حينئذ، مع بعض جيرانه. وسيرتاح بعض جيرانه، ويتنفسون الصعداء، حيث سيعود العراق إلى صفوفهم السياسية في الديكتاتورية الوقحة الصريحة، وتطبيقاً للقول الشعبي المصري "مافيش حَدْ أحسن من حَدْ!". وحينها ستكف بعض دول الجوار العراقي عن إرسال أرتال الإرهابيين إلى العراق، وسيسود الهدوء والاستقرار في العراق.

3 - رغم محنة العراق السياسية الحالية، فلا أحد ينكر أن العراق منذ فجر التاسع من أبريل 2003 قد تغير، وأصبح زهرة ذات لون ورائحة غريبة، في الغابة العربية، المليئة بالزهور البرية الوحشية. وقد عرضنا في كتابنا "الزلزال... أوراق في أحوال العراق، 2004" أمثلة مختلفة، وكثيرة، للتغيرات التي تمت في العراق، منذ ذلك التاريخ، وعلى رأسها حرية الرأي والرأي الآخر، وارتفاع سقف هامش الحريات في الإعلام العراقي المقروء والمسموع والمرئي. وهو ارتفاع غير مسبوق، ولا يتوفر في معظم البلاد العربية. وبعض جيران العراق غير راضين عن هذه التغيرات الابتدائية، ويريدون وأدها في مهدها، حتى لا تكون آية سياسية لشعوبهم، يسعون إلى تحقيقها. لذا، فهم يرسلون الموجات الإرهابية بين حين وآخر، وبوجود القوات الأميركية، وبعدم وجودها، لكي يقولوا للشعب العراقي، إن الجحيم الذي هم فيه، منذ 2003 سيستمر، مادام "العراق الجديد"، بكل قيمه السياسية الحالية قائماً.

4 - من المحتمل، أن تكون عمليات الإرهاب الأخيرة، التي تمت في العراق، عبارة عن رسائل من جيران العراق (سورية وإيران خاصة) الرافضين للمفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية التي ستجري غداً (الخميس) في واشنطن، بإشراف ورعاية أميركا، وحضور الأردن ومصر، ومباركة بعض الدول العربية الخليجية، التي أعلنت تأييدها لهذه المفاوضات. والغريب المُحيّر، أن هؤلاء الرافضين، لم يقدموا منذ أكثر من ستين عاماً، أي حلول بديلة للفلسطينيين. وكان همهم الرفض الدائم فقط، لكل الحلول العادلة والظالمة على السواء، حفاظاً منهم على تصدرهم للمجالس السياسية، ونجوميتهم الإعلامية، وتزعمهم للمنابر والعنابر السياسية. وهم غير قادرين على إيصال هذه الرسائل إلى البيت الأبيض في واشنطن، ويجدون أن من السهل إرسال هذه الرسائل عبر السفارة الأميركية في بغداد! وذلك أضعف الإيمان!

5 - وأخيراً، قد يكون هدف الإرهاب الأخير في العراق، زعزعة كرسي نوري المالكي شخصياً، و(المُتَمسمِِّر) بمسامير طائفية إيرانية. فمن المعروف، أن دمشق لا ترحب بولاية جديدة للمالكي، لأنها ترى أنه يرتبط بأجندات دولية، وأنه- كما تقول سورية - قد أساء لها دون أي مبرر، كما أن سياسته إزاء دمشق، اتسمت بالجحود، ونكران الفضل، والاستبداد!". وفي المقابل، فإن لطهران حسابات أخرى. فهي تريد عودة المالكي إلى السلطة، في إطار ما يشبه حكومة شراكة وطنية. وقد تنجح إيران في هذا المسعى.

* كاتب أردني