1 - يجب ألا يكون خافياً، أن القوى العراقية العَلْمانية التي تريد فصل الدولة عن الدين خائفة وحزينة، لما تشاهده وتسمعه على أرض الواقع العراقي، من تراجعات اجتماعية وثقافية وسياسية، لا تشير إلى تقدم الحداثة، بقدر ما تشير إلى تقدم الأصولية الدينية، والسياسية، والثقافية. وكان العلمانيون العراقيون المعتدلون يأملون أن يتم في العراق بعد 2003، ما تم في التأسيس الجمهوري الفيدرالي الأميركي، بعد الثورة الأميركية (1775-1783)، بحيث تم التوفيق بين الدين والتنوير والحرية، في تآلف نموذجي، كما قالت الباحثة الأميركية غيرترود هيمل فارب Himmelfarb  أستاذة التاريخ الفخرية، في كلية الدراسات العليا في جامعة نيويورك، وزميلة الأكاديمية البريطانية والجمعية الفلسفية الأميركية، في كتابها "الطرق إلى الحداثة: في التنوير البريطاني والفرنسي والأميركي"، وليس فصل المجتمع عن الدين كما تم في فرنسا ذات العلمانية (المتطرفة) بعد الثورة الفرنسية 1789.

Ad

2 - لا جدال، بأن مخاوف العلمانيين الحداثيين العراقيين، مبعثها شخصية رئيس الوزراء المكلف حالياً و"حزب الدعوة" الذي يرأسه، وهؤلاء على حق وصواب في مخاوفهم وهواجسهم، نتيجة للإرث الديني والسياسي المنغلق، الذي يرتكز عليه الرئيس المكلف. إضافة إلى الإجراءات المختلفة التي تمت في ولايته الأولى (2005-2010)، والتي اعتُبرت هزة خفيفة أو (وخزة) فقط، ضماناً لحكم سنوات خمس أخرى، وولاية ثانية، ولكي لا تفزع القوى السياسية الأخرى، التي يمكن لها أن تساعد على ضمان حكم خمس سنوات أخرى، وولاية ثانية. وهذا ما تم بالفعل، وتطابق حساب البيدر مع حساب الحقل هذه المرة، تطابقاً تاماً ونادراً.

3 - فلو قرأنا الخلفية السياسية والثقافية والدينية لرئيس الوزراء العراقي المكلف حالياً، لوجدنا أن خلفية الرئيس (الأمين العام لـ"حزب الدعوة"، بعد انفصال إبراهيم الجعفري- الأمين العام السابق- عن الحزب، وترؤسه لـ "تيار الإصلاح الوطني"، عام 2008) خلفية دينية أصولية متمثلة بعقيدة الحزب في "ولاية الفقيه"، وأن مرشد الدولة الإسلامية هو "الولي المفترَض". وفي نهايات القرن الماضي خرجت عن الحزب جماعة عُرفت بحركة "جُند الإمام" كانت تهدف إلى تهيئة الظروف الملائمة لظهور "المهدي المنتظر"، كما يقول رشيد الخيّون في كتابه ("لاهوت السياسة: الأحزاب الدينية المعاصرة في العراق"، ص144-145).

هذا من الناحية الدينية، أما من الناحية السياسية، فذلك ما يفصِّله الخيّون في موقع آخر.

4 - يقول الخيّون في كتابه المذكور، موضحاً ما حققه "حزب الدعوة" من إنجازات سياسية في فترة حكم إبراهيم الجعفري (2004-2005) (حين كان الأمين العام لحزب "الدعوة") وفي فترة حكم نوري المالكي (2005-2010). ففي الفترة الممتدة من 2004- 2010 حكم الحزب العراق لست سنوات (وهي أطول فترة حكم لحزب ديني عربي في التاريخ الحديث). وكانت نتيجة هذا الحكم احتواء المناصب والوظائف، وتعيين عدد من المستشارين غير المؤهلين والمسؤولين، البعيدين عن تخصصاتهم. وكان محمد باقر الصدر (1935-1980) مؤسس "حزب الدعوة الإسلامية" يردد مقولته الشهيرة "ذوبوا في الخميني كما ذاب هو في الإسلام". وقال كذلك "لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما ترددت في ذلك. إن السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إليه". ("لاهوت السياسة"، ص 139) ومن سلبيات الحزب العميقة كما يقول الخيّون- أن العديد من المراكز الثقافية والأكاديمية، غدت بيد كوادره، أو من ظلوا على الولاء له، من دون التوقف عند إمكاناتهم وقدراتهم، وهذا تشبه بسلوك حزب البعث وكل أحزاب السلطة الشمولية". ("لاهوت السياسة"، ص 151).

5 - نحن هنا لسنا ضد "حزب الدعوة الإسلامي"، ولسنا ضد أمينه العام السيد المالكي رئيس الوزراء العراقي المكلف، ولكننا ضد أن يتولى رئاسة الحكومة العراقية حزب ديني كـ"حزب الدعوة" يدينُ بالولاء المطلق لولاية الفقيه، ولمؤسس هذه الولاية، وللمرشد الأعلى الحالي لهذه الولاية. وما لهذا الولاء من تداعيات سياسية وثقافية خطيرة على حاضر العراق ومستقبله.

فالعراق بحاجة إلى رئيس وزراء حداثي، وتقدمي مدني، غير ديني، فالدين للمجتمع وليس للدولة، وما النجاح الكبير الذي حققته أميركا، دون بقية الدول الغربية الأخرى، إلا بفضل المواءمة بين الدين، والتنوير، والحرية. فأبقت الدين محفوظاً مصوناً مقدساً للمجتمع، وأبعدت الدولة عن التيارات الدينية، والأحزاب الدينية المختلفة، فحققت النجاح والتقدم.

6 - إن الخطورة القصوى، التي تنطوي على حكم "حزب الدعوة الإسلامي" للعراق بقيادة المالكي، تتأتى من كون هذا الحزب حزباً دينياً، يدين بالولاء المطلق للخمينية الإيرانية، كما عبر مؤسسه محمد باقر الصادر قبل قليل. ومن يحاول تخليص الحزب من إيديولوجيته الأصولية الدينية فسوف يفشل تماماً، لأن هذه الإيديولوجية بمنزلة جلد الحزب، بل هي لحمه ودمه. وهو ما ثبت خلال الأيام الماضية، حين نقلت لنا الأخبار من بغداد (وأول الغيث قطرة ثم ينهمر) وكانت هذه القطرة تقول وتشير إلى أن وزارة التربية والتعليم العراقية قررت منع تدريس مادتي المسرح والموسيقى في "معهد الفنون الجميلة" في بغداد ورفع التماثيل من مدخل المعهد دون إبداء الأسباب. ومنعت تدريس مادتي المسرح والموسيقى في المعهد باعتبارهما "حراماً".

وقال الكاتب العراقي حميد الكفائي معلقاً: "الأحزاب الدينية في العراق تعتزم إقامة دولة دينية. إنهم لا يطيقون الاختلاف، ولا يؤمنون بالديمقراطية. إنهم يستمدون قيمهم من الماضي ومن تفسيرات ضيقة للنصوص الدينية، في وقت يتجه العالم نحو التعددية واحترام خيارات الآخرين السلمية مهما كانت مختلفة".

فما الفرق بين إزالة "طالبان"، وتدميرها لتماثيل بوذا رغم تدخل العالم كله وإزالة تماثيل معهد الفنون الجميلة؟ وهل نشهد المزيد من فعاليات طالبانية عراقية في الأيام القليلة القادمة بعد تشكيل المالكي للوزارة العراقية؟

* كاتب أردني