1- لم تشهد مصر في العصر الحديث حكماً دينياً أصولياً، وإن كان للأزهر الشريف في العهد الملكي، أثره البعيد في السياسة المصرية، فمن ناحية لعب شيوخ الأزهر- ومنهم الشيخ مصطفى المراغي (1881- 1945) شيخ الأزهر من عام (1928-1929)، في عهد الملك فؤاد، وفي عهد الملك فاروق عاد شيخا للأزهر من (1935-1945)- دوراً كبيراً في الدعوة إلى الخلافة الإسلامية في مصر، وسعى إلى أن يكون الملك فؤاد أول خليفة مصري، بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا 1924، ثم حاول بعض شيوخ الأزهر تتويج فاروق ملكاً في الأزهر بدلاً من تتويجه في مجلس الشعب، لإسدال صبغة دينية أصولية على عهده، إلا أن النحاس باشا «رئيس الوزراء» رفض ذلك، وقال إن فاروق ملك مصر، ويجب أن يتوج في البرلمان المصري، وهكذا كان. كذلك، فإن الإخوان المسلمين في عهد الملك فؤاد والملك فاروق، كانوا داعمين ومؤيدين للعرش العلوي هناك، ويقفون في الجانب الآخر المعارض لحزب الوفد الحداثي العلماني، وكانوا ينادون في مظاهراتهم «الله مع الملك»، مقابل شعار الوفد «الشعب مع الوفد». وكان الإخوان يطلقون على الديوان الملكي، المليء بالداعرات الإيطاليات والفرنسيات «الديوان الملكي الإسلامي» كما يقول لنا الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه (فاروق ملكاً). إضافة لهذا كله، فقد وقفت الأصولية الدينية من العهد الملكي وقفة الحاضن المتبني والداعم، وظهر هذا واضحاً، من خلال موقف الأزهر وشيوخه، من كتاب علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم). فهو في كتابه عام 1925، قال بشكل صريح، بفصل الدين عن السياسة، كما أنه قال: «لا القرآن ولا السُنّة نصا على الخلافة، ولا الإجماع انعقد عليها. كما أن وجودها التاريخي، لا يعني استمرارها». ثم جاء كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» عام 1950 الذي ردد فيه دعوة عبدالرازق في فصل الدين عن الدولة، ففي الكتاب الأول، تمَّت مصادرة الكتاب، وطرد عبدالرازق من سلك القضاء. وتم سحب شهادة الأزهر منه، ورفض دعواه وكتابه، كذلك تمَّت محاكمة كتاب خالد وتكليف الشيخ محمد الغزالي، بالرد على خالد في كتابه «من هنا نعلم».

Ad

-2 لم تُحكم مصر حكماً دينياً أصولياً مباشراً، كما هي الحال في إيران الآن، أو كما كانت الحال في أفغانستان قبل 2001، أيام حكم طالبان، في حين أن مصر في الفترة 1952-2011 حكمها ثلاثة حكام دكتاتوريين عسكريين، استطاعوا أن يثبتوا في كراسيهم سنوات طويلة (حوالي ستين عاماً من 1952-2011) نتيجة اضطهادهم وتنكيلهم بالمعارضة الدينية الأصولية، التي تزعمتها جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تقود منذ 1928 «الفاشية الخضراء» بينما قاد الدكتاتوريون العسكريون الثلاثة «الفاشية الحمراء» خصوصا في عهدي عبدالناصر والسادات، وقاد مبارك «الفاشية الأزهرية»، وكان ما حصل في مصر منذ 1952 إلى أن تنحّى الرئيس مبارك في 2011، هو ما تمَّ وحصل في معظم أنحاء العالم العربي بدءاً من السودان المجاور، إلى الجزائر، مروراً بليبيا، وتونس، والعراق، واليمن، وسورية، وكأن الحاكم في هذه البلدان كان واحداً، أو من طينة واحدة، وهي «الفاشية الحمراء» التي سبق لنا أن شاهدناها في إيطاليا (1922-1943)، وفي بلدان شرق أوروبا، التي كانت منطوية في منظومة «الاتحاد السوفياتي»، ويبدو أن مرحلة ما بعد الاستقلال العربي، ومرحلة التحرر من الاستعمار الغربي، كانت تفرض على كثير من البلدان العربية هذا الواقع السياسي المؤلم من الحكم العسكري الدكتاتوري، وهو ما شهدته أميركا اللاتينية أيضاً. وأن ما بعض البلدان العربية من انتفاضات شعبية، تصل إلى مستوى «الثورة» (مصر بالثورة الخشنة- الناعمة، وليبيا واليمن بالثورة الدموية- الحمراء مثالاً. فالثورة، لا بُدَّ أن يُدفع ثمنها دماً، وإلا تصبح خاطرة، أو زيارة، أو تحية سياسية حارة). وكان الفيلسوف الفرنسي آتيين دي لابويسيه (La boétie» (1530-1563» قد قال في مقالته الشهيرة «العبودية المختارة»، إن «الخضوع للطغيان لا يعني انعدام إرادة الحرية، بل الإحجام عن دفع ثمنها». ويبدو أن الشعوب العربية قد أصبحت الآن قادرة على دفع ثمن الحرية الغالي، حين توفر لها الثمن. وهذا يذكرنا بقصة البدوي، الذي اصطحب ابنه إلى سوق بيع الجِمال، ليشتري له جَملاً، فقيل له إن سعر الجَمل مئة دينار فاستغلى السعر، وقال لابنه: دعنا نعود في السنة القادمة، فلربما كان السعر أرخص، ولما عادا في السنة التالية، قيل لهما إن سعر الجَمل مئتي دينار، فقال البدوي لابنه: ألم أقل لك ذلك! واشتريا الجَمل، ولكن الابن سأل أباه: لماذا لم تشتر في السنة الماضية بمئة دينار، واشتريت الآن بمئتي دينار؟ فردَّ الوالد: في السنة الماضية لم أكن أملك مئة دينار، فوجدتُ السعر غالياً، ولكني الآن أملك مئتي دينار، فوجدت السعر رخيصاً! وهكذا هي الشعوب العربية، حين ملكت ثمن الحرية طلبتها، وأقدمت عليها كما نشاهد الآن.

-3 في المشهد المصري الآن، يتخوّف كثير من المراقبين من أن تنتقل السلطة في مصر من السلطة الدكتاتورية العسكرية التي حكمت مصر في العصر الخديوي والملكي والجمهوري العسكري، إلى السلطة الدينية الأصولية، متمثلة بالدرجة الأولى في الإخوان المسلمين؛ أي من «الفاشية الحمراء» إلى «الفاشية الخضراء»، كما يُطلق عليها المفكر التونسي العفيف الأخضر. وهذه المخاوف التي تعتري المراقبين والمحللين السياسيين للحالة المصرية الآن، تنطلق من أن جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى التي بدأت تمارس العمل السياسي الآن، بعد أن تمّ إطلاق الحريات السياسية في مصر الجديدة، والإفراج عن قادة وزعماء هذه التنظيمات الإسلامية السياسية أخيراً، استطاعت أن تستميل وتكسب جزءاً كبيراً من الرأي العام المصري المتدين، في الاستفتاء على التعديلات الدستورية يوم 19/3/2011، وبقول «نعم» للتعديلات الدستورية بنسبة 77%، مقابل «لا» بنسبة 33%، التي قالتها التنظيمات الحزبية اليسارية والمعارضة، والتي شارك فيها لأول مرة في تاريخ مصر والعالم العربي، أكثر من 22 مليوناً من المقترحين من مجموع 54 مليوناً من المؤهلين للاقتراع.

-4 فمنظمة «مراقبون بلا حدود» الدولية، رصدت تحالف «الإخوان المسلمين» مع التيارات الدينية، وتأثيرها في إرادة المواطنين خلال يوم الاستفتاء، وهذا من حقها في مجتمع يسعى إلى البناء الديمقراطي، أما «الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية»، فقال تقريرها الثالث، عن يوم الاستفتاء، إن الإخوان والسلفيين يلعبون أدوار أجهزة الأمن القديمة (وهنا تكمن الخطورة)، وأضاف التقرير: «إن الصورة المبهرة للمصريين، التي مارسوا فيها الديمقراطية بشكل حضاري راق، لم يشذ عنها إلا تصرفات جماعة الإخوان المسلمين ومعهم السلفيون، الذين أصروا على الدعاية داخل اللجان وخارجها ومحاولات إجبار المواطنين للتصويت بـ»نعم»، إجباراً معنوياً بدعاوى الاستقرار، وحشد المسلمين في مواجهة الأقباط، بدعوى إنقاذ «المادة الثانية» من الدستور، والتي لم تُطرح للتعديل، وبحسب «الجمعية»، تمادى «الإخوان» والسلفيون للسيطرة على اللجان، كما كانت تفعل الأجهزة الأمنية، في انتخابات ما قبل ثورة 25 يناير، واعتبرت «الجمعية»، أن عدم وجود إرشادات للناخبين للتصويت، وارتفاع نسبة الأميّة والفقر، وعدم دراية القضاة المشرفين على الانتخابات بتفاصيل كثيرة متعلقة بإدارة الانتخابات، ساعد الإخوان على ممارسة دعايتهم، وتأثيرهم في المواطنين، وبحسب تقرير «الجمعية المصرية لدعم التطور الديمقراطي» استخدم الإخوان أساليب «الحزب الوطني»، مثل توزيعهم «شنط» الزيت والسُكَّر، وفي حشد الناس، ونقلهم جماعات في سيارات خاصة، والتأثير المباشر حول اللجان، حيث أقاموا في يوم الاستفتاء نفسه مؤتمرات على باب اللجان خصوصاً في الإسكندرية تشرح للمقترعين أهمية التصويت بالموافقة.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة