يكثر الحديث في كل عام يقام فيه معرض الكتاب عن هموم هذا المعرض. وغالباً ما تصب هذه الهموم في خانة التذمر والاستياء سواء من سياسة العرض، أو نوعية المعروض، أو مما يُسمى بسلطة الرقابة والمنع. وهذه الأخيرة، أي قضية الرقابة، باتت من قضايا الساعة التي لا تنفك تطفو على السطح كل عام وتشكل هماً اجتماعياً وثقافياً لافتاً. ولعله لا يخفى على المتأمل في حياة مجتمعنا وظروفه طوال الخمسين سنة المنصرمة ما تناوب على هذا المجتمع من مؤثرات وتيارات فكرية، أخذته بين مدّ وجزر، ونقلته من شاطئ إلى آخر، ومن سفح إلى جبل إلى وادٍ، متقلباً بين حال وحال، ومتأثراً في الأغلب الأعم بمستجدات الأفكار والتيارات التي تعم المنطقة كلها، سواء في عمقها المكاني أو الثقافي أو العقائدي.

وطوال هذه العقود المتأخرة، كانت الكويت ولاتزال تعاني مشكلة الصراع بين ثقافة المحافظة وثقافة الانفتاح. وكانت الكفتان تتأرجحان بين المحافظة والانفتاح حسب معطيات الواقع الراهن وضغوطاته الاجتماعية والسياسة. ففي عقدي الستينيات والسبعينيات كان المزاج العام ومخططات التنمية البشرية وتوجهات القوى الاجتماعية تميل نحو الانفتاح، مدفوعة جميعهاً بحماس نحو التأسيس لدولة حديثة تأخذ بسنن التطور وتندفع للحاق بالعالم المتحضر. صحيح أن التطور المادي والمظهري حينئذ كان الغالب، ولكن لا نستطيع أن نغفل الاستعداد النفسي ويقظة الوجدان اللذين واكبا تلك المتغيرات، وخلقا حالة من المرونة والترحيب لدى الجيل الجديد الذي تقبل الانفتاح بصدر رحب، واستطاع أن يؤصل لنفسه سمات فارقة مثل: سعة الأفق، والاستعداد للتثاقف، والتسامح.

Ad

ثم قضت سنن التغيير في العقود الثلاثة الأخيرة أن ترتفع كفة المحافظة، وأن تروج الطروحات الدينية وتعم مظاهر التدين، وترتفع دعاوى العودة إلى السلف والتراث، ويتم الاشتغال بجدّ على تكريس الهوية الثقافية ببعديها العرقي والديني. وخلال هذا المدّ الأصولي كان المجتمع يتقولب اجتماعياً وسياسياً وفكرياً داخل هذه المنظومة المحافظة.

إن معرض الكتاب كأي ظاهرة ثقافية ليس سوى انعكاس لذوق وفكر المجتمع عبر مراحل تحولاته ومتغيراته الفكرية والنفسية، فأول معرض للكتاب أقيم قبل أربعة وثلاثين عاماً تقريباً، وأعتقد أن القارئ وقتئذ أي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، كان يختلف عن القارئ الآن، فقارئ تلك الأيام كان، في العموم، أكثر ميلاً إلى قراءة المنتج الأدبي والفني بتياراته الحديثة، وكذلك المترجمات، وخليط من الثقافة العصرية المنفتحة على منجزات الفكر الإنساني عامة، ولذلك كانت طاولات دور النشر الأمامية تتصدرها المجموعات الشعرية للسياب وادونيس ونزار قباني وناظم حكمت، وعناوين مثل (هكذا تكلم زاردشت) و(زوربا) و(مأساة الحلاج)، ومؤلفات غادة السمان، ووجودية سارتر وسيمون دي بوفوار، وفلسفة هيجل ونيتشه. أما الكتب التراثية وعلوم الدين فقد كانت تتلامح باستحياء في الرفوف الجانبية والخلفية، لأن الطلب عليها حينئذ غالباً ما يكون قليلاً أو نادراً.

وباختلاف معطيات العصر في العقود الثلاثة الأخيرة وبروز التيارات الدينية سياسية كانت أو فكرية، أخذ الذوق العام يتشكل حسب هذه المعطيات ويتشرب طروحاتها ومواقفها المتحفظة من الفكر المغاير والثقافة الغربية عامة، بل ويتحسس مما يظن أنه خدش أو إساءة لمنظومة القيم العقائدية أو الأخلاقية. وفي سبيل تكريس هذه القيم المحافظة، لم تأل جماعات الضغط السياسي والاجتماعي من الدفاع عن طروحاتها وحراستها بكل ضراوة. فبارت تبعاً لذلك سلعة المنتج الثقافي ذي الصبغة الانفتاحية وتراجعت صدارته، فلا مندوحة إذن من أن تنقلب الآية، فنرى طاولات دور النشر الأمامية تتصدرها كتب علوم الدين ومجلدات المنتج التراثي وكل ما يخص الروحانيات والغيبيات.

معرض الكتاب مجرد سوق ، والسوق يخضع كالعادة لقانون العرض والطلب . وما هو موجود في معرض الكتاب في الكويت من كتب وإصدارات ليست سوى سلع استهلاكية تلبي حاجة الغالبية العظمى من المشترين . وبالمثل قوانين المنع والإجازة التي يخضع لها المعرض، ومن يمثلها من رقباء وموظفين ، فهم ليسوا سوى إفراز لطبيعة المرحلة ومرآة من مراياها .

فلمَ العجب ؟!!