معرضٌ موسع للفنان الكتلاني جوان ميرو (1893-1983) في «التيْت مودرن»، تحت عنوان «سُلّمُ الهرب». أيُّ شرَكين مُغرييْن؟

Ad

في كتابي «العودة لغاردينيا»، الذي صدر عام 2004 فصلٌ يبدأ بالمفتتح التالي: «من الذي يرتقي معي هذا السلّمَ الذي بين يديّ كسلالم القرصان، مُنحدراً إليّ من موضعٍ مجهولٍ في الأعالي؟ السلالم من خشب الساجِ وقد احتفظ، مازال، ببللِ الأفق. شُدّت بضفائر القُنّب المتينة، وقد انحدرت من شاهق. غامت قليلاً حين قطعت السحبَ، ثم اتضحت وهي تنحدر، وكأنها لا تبعد متراً عن العين. سُلّمُ اتحاد الكائن مع تطلّعه، مع هربه.

«من يرتقي معي مُتطلّعاً أو هارباً إلى حيث لا فزع ولا فقدان؟ لا خيبة حبّ، لا علّة في الجسد، لا حاجة لعزاء، لا حيرة من مُجافاة المكان والزمان، لا دِعة تُخفي سراً، لا جذوة عقلٍ تُطفأ بفعل توقّدها؟

من يخلع نعليه لكي يمسّ معي بللَ الأفقِ البكر...» (209)

هذا السلم وجدته مُتشكّلاً في لوحة، في لوحات ميرو، وبالعنوان والهدف ذاتهما. على أني أذكر أن وقدة استثارة صورة «السلم» الأولى لديّ جاءت من مسرحية طويلة أعدّها المخرج البريطاني بيتر بروك تلفزيونياً عام 1989، لملحمة «ماهابهراتا» الهندية. هناك رأيت بروك يجعل السلّمَ المنحدر من السحب صلةَ وصل الأحياء بالسماء. انغمرت الصورة في طيات الوعي لتخرج نثراً في «العودة لغاردينيا»، حين استدعت الحاجة.

لم يحتج ميرو لهذا السلم في مراحله الأولى. فقد كان منصرفاً إلى المسرّات الأرضية التي تمتع بها شبابُه الأول من حياته الفلاحية، يوم كان واقعياً، أو محاذياً للواقع: منزل، مزرعة، ديك، كلب نابح، وسلمٌ أيضاً. ولكن السلم مازال أداةً أرضية، لم يحتج ميرو إلى أن يوظفها لحاجته التي أحسّها في ما بعد. وحين أقام في باريس سنتين (1920)، وانغمر بأمواج الحركات الطليعية، والسوريالية بوجه خاص، بدأت تلك الأشكال الحية تتحول إلى أشكال رمزية، أو إشارات. صار ميرو يضع هذه الأشكال الحية في عزلة مطلقة، بعد أن يعيد تشكيلها بصورة لا تمت إلى واقعها بصلة.

من الواضح أن ميرو الكتلاني، اليساري، المناهض لدكتاتورية فرانكو، وللنزعة العسكرية الوحشية التي أشعلت الحرب العالمية الثانية، لم يجد مُتسعاً في السوريالية، التي تُعنى بعالم الأحلام الباطني، لمعاناة روحه أمام حركة الإفناء المتعمّد للإنسان. رغم أنه محسوبٌ على السوريالية وأسهم في التوقيع على بيان السوريالية الأول الذي أصدره أندريه بريتون، فإن عناصر لوحته تشي بتوجه احتجاجي غائم الملامح، ويحتاج من المشاهد إلى تفكيك الأشكال ليتبين الطيور الكاسرة بأنيابها ومخالبها. ولكن ميرو يظل، بالدرجة الأولى، راءٍ يتوسلُ البساطةَ التي تقارب المخيلة الطفولية. على أنها مخيلة بعيدة عن البراءة أيضاً. ففيض الرغبات الجنسية لا يخفى عن العين، حتى لو اكتفت لوحتُه بخط دائري أسود تتوسطه ضربةُ فرشاة حمراء، وعلى مبعدة في الأسفل يعوم مثلثٌ أسود في زرقة صافية. إن لوحته تتمتع بخفة دمِ الجمال الفائض فيها.

إن السلم، سُلّم الهرب، يأخذ المشاهد إلى سماوات مخيلة ميرو الغريبة. هربٌ من العتمة الأرضية. وهرب إلى عالم الفن الذي يشكّل ملاذاً أكثرَ أمناً.

المعرض موزع على 13 قاعة، وعلى عقود ستة من حياة ميرو الإبداعية. تتوزّع كالعادة بين مبكرة، لعل أبرزها لوحة «المزرعة» (1921) التي اشتراها همنغواي في وقتها. ثم المرحلة الوسطى التي ميزت نضج ميرو، ووضعته في الواجهة، مع بيكاسو وسلفادور دالي. ولوحة «طبيعة صامتة مع حذاء عتيق» (1937) تمثل واسطة العقد لعدد كبير من اللوحات المتألقة. المرحلة الأخيرة يبدو فيها ميرو، وكعادة المشاهير في مراحل العمر الأخير، اختزالياً في لوحته، يكتفي بلون واحد (أحمر، كهرماني، أو أخضر) يغطي سطح الكانفس الواسع جداً، ثم إضافة لطخة هنا، وخيط أسود سائب هناك. وهذا ما حدث مع لوحات ثلاثية كبرى وضعها في نهاية عمره، الذي انطفأ عام 1983، بعد أن شاهد نهاية المرحلة الدكتاتورية في بلده إسبانيا مع موت فرانكو 1975.