«ما فيش... بس تخيل»!


نشر في 10-05-2011
آخر تحديث 10-05-2011 | 00:01
 د. ساجد العبدلي تخيل... أنت في الطائرة مسافر في رحلة تستغرق ثماني ساعات، وما إن أقلعت الطائرة، حتى انتبهت إلى أن من يجلس بجانبك مصاب بالرشح، وأنه «يشفط» أنفه بمعدل مرة في كل ست ثوانٍ، واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة... «شفطة»، واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة... «شفطة»، تبدأ تحسب في مخك، عشر «شفطات» في الدقيقة، ضرب ستين، ضرب ثمانية، يساوي 4800 «شفطة» من هنا إلى أن نصل, يحتقن وجهك وتشعر أنك تود لو تخنقه.

لكنك حتى هذه اللحظة لم تكن منتبهاً للرضيع النائم في حجر أمه في المقعد الآخر، وفجأة يستيقظ ويبدأ «بالنعيق» بلا انقطاع! صراخ مثل صافرة الإنذار، تشعر بالصوت يرن في عظام جمجمتك! وهنا تقول لنفسك: السيد «شفاط» يهون مع هذا الصراخ، ومع كل صرخة يطلقها الرضيع تشعر أن «بوزك» يمتد شبراً إضافياً، ومزاجك يصبح كالقطران أو أشد!

وفي تلك الأثناء التي وصلت فيها إلى مرحلة الانفجار، تبدأ الطائرة تهتز وترتج وتترنح، وتتعالى صيحات الناس، ولوحات التحذير تضيء، وتتدلى أقنعة الأوكسجين، وتأخذ الطائرة بالاندفاع بشكل حاد نحو الأرض، فتشعر بقلبك يكاد يخرج من بلعومك من قوة الضغط، هنا تصرخ في داخلك: استر يا رب سامحني يا رب، أنقذني يا إلهي ولن أتضايق من أي مريض في حياتي، ولا من بكاء أي رضيع، سأتحملهم طوال عمري!

حينها يتمكن الطيار من كبح جماح الطائرة، والسيطرة عليها، فتأخذ بالاعتدال والاستقرار، ويأتي صوته في السماعات الداخلية ليعتذر!

بعد قليل تنتبه إلى أن الناس قد هدؤوا، وأن الرضيع قد توقف عن البكاء، وأن السيد «شفّاط» نام، فتبدأ بالاسترخاء، لكن هنا وعلى حين غرة، ترتفع عقيرة «الشفّاط» النائم بشخير كأنه منشار كهربائي، ويبدأ الرضيع بالصراخ مجدداً!

هذه القصة، التي كنت قرأتها في مكان ما منذ زمن وقمت بإعادة صياغتها لكم، هي من سلسلة قصص «ما فيش... بس تخيل» الشهيرة، إلا أنها على الرغم من ذلك تشبه حياة أغلب الناس في الحقيقة. كل واحد منا في حياته منغصات ومشاكل، تجلس مع صديقك المهموم فتسأله ماذا بك؟ فيقول: زوجتي أتعبتني، لا أستطيع أن أتحملها، تصبّره قائلا: أعانك الله، تراه بعد أيام، تسأله عن حاله وزوجته، فيقول: يا أخي كل شيء يهون، لكن ابني أتعبني، يومياً في مشكلة وأنا خلفه بين المخافر! بعدها بأيام تقابله فتسأله عن ابنه، فيقول يا أخي: «أنا وين وأنت وين، انخرب بيتي، خسرت في البورصة»! تراه بعد شهر تسأله عن حاله؟ فيقول: فرجها الله، ارتفعت البورصة وربحت من جديد، لكن مازلت «تعبان» من ابني! وهكذا!

أغلب الناس يشعرون أن مشكلتهم الحالية التي بين أيديهم، صغيرة كانت أم كبيرة، هي مشكلة المشاكل وباقعة البواقع، بل نسوا معها كل مصائبهم السابقة التي قد تكون أصعب وأكبر مما يعانونه الآن.

يتمثل مدار العلاج، في قناعتي، بالقاعدة الذهبية التي تقول: إن الألم قد يكون حتمياً، لكن التعاسة هي اختيار, والمراد هنا ألا أحد من الناس يستطيع الفرار من قدره، فلا يمكنه أن يتفادى ما كتب عليه من مصائب ونوائب، لكنه يستطيع إلى حد كبير، إن هو أراد ذلك حقاً، أن يتحكم بكيفية تعاطيه وتفاعله معها, فسعادتنا وتعاستنا بأيدينا، وأولئك العظام الذين أدركوا معنى الحياة فهانت عليهم كل المصائب حتى صارت مصيبة الموت عندهم شهادة، والسجن خلوة، والنفي والاغتراب سياحة، لم يكونوا إلا بشرا مثلنا، يمكننا قطعاً مهما صعب الأمر أن نصبح مثلهم، أو قريباً منهم، وفي النهاية، كما قال القائل:

وما هذه الدنيا وإن جَلّ قدرها سوى مُهلة نأتي لها ونروحُ!

back to top