عشت على المدى وطنا
لا أعتقد أن الأغاني والأناشيد الوطنية هي وليدة العصر الحديث، أو أنها إفراز ومحصلة لمرحلة ما بعد إعلان الاستقلال منذ عام 1961م، وإنما أتصور أن المشاعر الوطنية وحب الأرض من الأمور ذات الصلة الوثيقة بتاريخ الشعوب وعلاقاتها المعقدة مع مواطن استقرارها، وما تفرزه هذه العلائق من وجدانيات وعواطف إنسانية عميقة الغور.ولعل ذلك يتضح على سبيل المثال في لونين من ألوان الفنون الشعبية لدينا، وهما: فن (العرضة) وهو مزيج من الرقص والغناء المعبّر عن الاعتداد بالنفس وعن نشوة الانتصار في الحروب. والفن البحري المرتبط بالغوص والسفر التجاري، وهو لون من المواويل العذبة والغناء الشجي المعبّر عن الحنين للأهل وألم الفراق ومعاناة الغربة. وكلا الفنيين يكرسان المعاني الجميلة والعميقة لحب الوطن والأرض، ويوثقان للارتباط الفطري والوجداني بالمكان، قبل أن يكون للكويت نشيد وطني يختزل هويتها وتطلعاتها.
ومنذ الاستقلال وحتى العقود الأخيرة من وقتنا الراهن، كانت هناك مجموعة من الجهود الصادقة والحثيثة تشتغل على تكريس العواطف الوطنية وإيقاظها، وذلك من خلال ما تبدع من أشعار وأوبريتات وأغانٍ وألحان بديعة، غدت أيقونات فنية خالدة لا تبلى. من منا لا يتذكر «يا دارنا يا دار» أو «رفرف يا علم بلادي» أو «يا كويت يا وردة ربيعية» لعوض دوخي أو «وطن النهار»، دون أن تهتزّ مشاعره أو تدمع عينه؟ بل أن الجميل في الأمر أن الغناء الوطني ما عاد صخباً وحماساً وآلات نحاسية، وإنما كان في أبدع نماذجه –المذكورة أعلاه- يميل إلى العذوبة والرهافة والشجن، والقدرة على استثارة أرق المشاعر بكلمات ونغمات فيها من الانسياب والنداوة والشجو أكثر مما فيها من الصخب والفخامة. لا يستطيع المتحدث في موضوع الأغاني الوطنية إلا أن يقف وقفة خاصة عند ثلاثة شعراء كانت لهم بصمة وأثر في ما أُنتج من تراث موسيقي في هذا المضمار، وهم أحمد مشاري العدواني ومحمد الفايز وعبدالله العتيبي. أما الأول فيكفيه فخراً أنه كتب كلمات النشيد الوطني، وقبلها غردت أم كلثوم برائعته (يا دارنا يا دار). وإلى جانب ذلك فلديه من الأعمال الشعرية المقروءة والمغنّاة ما يحرز له مكانة مميزة بين شعراء جيله. أما محمد الفايز فقد استطاع بقصيدته الملحمية الطويلة (مذكرات بحار) أن يوثق وجهاً من وجوه التاريخ الشعبي المرتبط بحياة الكويت القديمة، وخاصة ما يتعلق بمهنتي الغوص والسفر، وأن يعيد صياغة هذا التاريخ ممهوراً بذلك الزخم من العواطف الإنسانية العميقة التي تحدت بصبرها وإيمانها صعوبات الحياة وخشونة العيش. وبذلك غدت هذه الملحمة الشعرية بما تحمل من حسّ إنساني رفيع، نصاً قابلاً للغناء والتلحين والتهويم مع مقطوعاته الشجية.أما عبدالله العتيبي فقد كرّس جانباً غزيراً من انتاجه الشعري للتغني بالمشاعر الوطنية، فكانت كلماته الرقيقة البسيطة خير سفير وترجمان لما يعتمل في الضمير الجمعي. وقد استطاع العتيبي بحسه المرهف وحبه الكبير لوطنه، أن يتوغل في أدق التفاصيل حول التاريخ والعادات والمأثورات الشعبية والملامح المحلية وكل ما يتعلق بالهوية الوطنية، حتى لُقب بسبب ذلك بعاشق الدار. وطالما شكل مع الفنان شادي الخليج والملحن غنام الديكان كياناً إبداعياً ذا ثلاثة أضلاع، كياناً استطاع أن يؤسس لفن الأوبريت الوطني في الكويت ويطلق في الجو أفراحاً كبيرة لا تنتهي ومشاعر لا تذبل.ولا يبقى إلا أن نقول إن مظاهر الاحتفالات الوطنية كانت ولا تزال من أعرق التقاليد في الثقافات الإنسانية عامة، وكانت ولا تزال ذات دلالة عميقة على هويات الشعوب وملامحها الفارقة. وأعتقد أن ما نملك من تراث فني في هذا المضمار جدير بتكريس هويتنا وتطلعاتنا وأحلامنا.