ما الذي نحتاج إليه من الحبيب ليبقى بخورا عالقا في الذاكرة؟! لا تنتشله يدُ الريح من قلوبنا... ولا يمحو المطر أثر خطواته على رمل حكاياتنا التي نخبئها في زوادة العمر.

Ad

من هو ذلك الحبيب الذي يمتد في أيامنا كسنديانة، لا يزيدها مرور السنين سوى مزيد من الشموخ والظل؟!

كلما حاولنا غسل أيدينا لنتخلص من وشمه على كفوفنا، زادت أصابعنا اخضرارا به.

وكلما أردنا نفض ريش تودده عن وسائدنا، امتلأت وسائدنا بأجنحة الحلم به.

وكلما سددنا الطرق المؤدية إليه بالحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة، وجدناه يستوطن خطواتنا...!

وكلما أسدلنا الستائر حتى لا يتسلل نور وجهه من الشبابيك، وجدناه شمسا تشرق كل صباح بين حنايانا... يمسك بأطراف أصابعنا إصبعا إصبعا، ويمحو بماء النار بصماتنا وينقش بدلا منها بصماته التي لا تزول أبداً...

من هو ذلك الحبيب الذي له هذه السطوة علينا؟! وله هذا التجذر داخلنا؟! وكيف تأتّت له هذه السطوة، وهذا التجذر؟!

هل هو ذلك الحبيب المطواع، الذي نشكله كالطين الطري بين إيدينا؟! يسير على هوانا، لا يعصي لنا أمرا، ولا يعترض مشيئتنا، يسخّر حياته خالصة لما نريد.

البعض يفضل هذا النوع من الأحبة، لأنه يمنحه نشوة الإحساس بالسيطرة، والإحساس بأن هناك شخصا حياته مرهونة في يديه، شخصا يعتقد أن سعادته واقفة أبداً على إرضاء من يحب، مهما كلّفه ذلك الرضا.

هذه النوعية من الأشخاص قلما نجدها، فإن وُجدت فإن البعض يعتبر أن طاقة القدر فُتِحت له!

أم أنه ذلك الحبيب الذي يوفّر لنا كل احتياجاتنا المادية؟! فهو أشبه بمصباح علاء الدين كلما فركته لا تجد على شفتيه سوى كلمتين فقط: «شبّيك... لبّيك»، نعيش بفضله حياة الترف والرخاء حتى لا نستطيع التفريط به، خوفا من خسارة ما يغدقه علينا من رغد العيش وطيب الحياة.

البعض أيضا يفضل هذا النوع من الأحبة.

أم أنه ذلك الحبيب الذي يوفّر لنا كل احتياجاتنا المعنوية؟! نجده دفئا حين يحاصرنا برد الآخرين... وحضنا حين تلاحقنا ذئاب الوحدة في الليالي الحالكة، وقلبا نابضا حين تعجز قلوبنا عن ضخ الدم في شراييننا.

البعض يعتقد أن ذلك هو الحبيب الذي تخلده الذاكرة، وربما يكون ذلك الحبيب هو يملك كل الصفات السابقة، وربما للبعض مواصفات أخرى غير ما سبق.

وجهة نظري الشخصية التي عرفتها متأخرا ربما، هي أن الحبيب الذي لا يغادرنا أبدا مهما حدث، هو ذلك الحبيب القادر على رؤية جمالنا الداخلي وتقديره، واكتشاف جمالنا الذي لا يراه سواه وجعلنا نؤمن به!

ليس في الحب فقط، بل في كل العلاقات الإنسانية مهما كان شكلها، يبقى دائما في ذاكرتنا أولئك الأشخاص الذين يملؤوننا ثقة بأنفسنا، ويعززون قدرتنا على التعاطي مع طاقاتنا، ويُقدّرون ما يرونه فينا من جمال نعلمه فينا، وكذلك الجمال الذي لا نراه فينا مهما صغر، ومهما تراكم عليه الغبار.

إذا أردنا فعلاً الخلود في ذاكرة من نحب، فعلينا أن نكون قادرين على رؤية جماله الداخلي واكتشافه.