تكلفة حرب العراق الحقيقية... ثلاثة تريليونات دولار وما فوق

نشر في 08-09-2010
آخر تحديث 08-09-2010 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت  في مقالنا الذي نُشر في هذه الصحيفة في مطلع عام 2008، حددنا التكلفة الإجمالية لحرب الولايات المتحدة في العراق بثلاثة تريليونات دولار أميركي. كان هذا الثمن باهظاً مقارنةً بالتقديرات السابقة، بما فيها توقعات إدارة بوش في عام 2003 بأن تتراوح تكلفة الحرب بين 50 و60 مليار دولار أميركي.

لكن اليوم، بينما تنهي الولايات المتحدة عملياتها القتالية في العراق، يتبين أن مبلغ ثلاثة تريليونات دولار الذي قدّرناه (والذي شمل النفقات الحكومية فضلاً عن أثر الحرب الواسع على الاقتصاد الأميركي) كان زهيداً جداً. ثبت مثلاً أن تكلفة تشخيص حالات المحاربين العاجزين، ومعالجتهم، وتعويضهم خرجت أعلى مما توقعنا.

فضلاً عن ذلك، اتضح لنا بعد مضي عامين بأننا أغفلنا في تقديراتنا أكثر نفقات الصراع واقعيةً على الأرجح، تلك التي تصب في خانة ما يسميه الاقتصاديون "تكاليف الفرص البديلة". تساءل مثلاً كثيرون بصوت عال عما إذا كنا سنظل متورطين في أفغانستان لو أننا لم نغز العراق. لكن ذلك ليس التساؤل الوحيد الذي يستحق التأمل. قد نتساءل أيضاً: لو أن الحرب في العراق لم تقع، هل كانت أسعار النفط لترتفع بهذه السرعة؟ هل كان الدين الفدرالي ليصل إلى هذا المستوى العالي؟ وهل كانت الأزمة الاقتصادية لتبلغ هذا الحد من الخطورة؟

الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة كلّها هي لا على الأرجح. نستخلص كعبرة أساسية في علم الاقتصاد أن الموارد نادرة، بما فيها المال والاهتمام. فما خُصص لأرض معركة واحدة، العراق، لم يتوافر في مكان آخر.   

أفغانستان

صرف غزو العراق اهتمامنا عن حرب أفغانستان التي دخلت اليوم عامها العاشر. بالرغم من أن "النجاح" في أفغانستان كان دوماً هدفاً مراوغاً، لتمكنّا على الأرجح من فرض سيطرة أكبر على "طالبان"، ولتكبّدنا خسائر أقل في الأرواح، لو أننا لم نحول مسار اهتمامنا. فحين اجتحنا العراق في عام 2003، خفّضت الولايات المتحدة الإنفاق في أفغانستان من أكثر من 20 مليار دولار في عام 2002 إلى 14.7 مليار دولار، بينما صببنا 53 مليار دولار في العراق. وفي الأعوام 2004، 2005، و2006، أنفقنا أموالاً في العراق تفوق بأربعة أضعاف تلك التي أنفقناها في أفغانستان.

لذلك يصعب تصديق أننا كنا سنتورط في صراع دموي في أفغانستان اليوم لو أننا خصصنا الموارد التي استخدمناها في العراق لأفغانستان. ومن هذا المنطلق، لكانت زيادة في القوات في عام 2003، أي قبل أن يعيد أسياد الحرب وعناصر "طالبان" بسط سيطرتهم، أكثر فعاليةً من زيادة في عام 2010.

النفط

حين شنّت الولايات المتحدة الحرب على العراق، كان سعر برميل النفط يقل عن 25 دولاراً وتوقعت أسواق العقود الآجلة بأن يظل ضمن ذلك المستوى. لكن مع اندلاع الحرب، بدأت الأسعار في الارتفاع وبلغت 140 دولاراً للبرميل الواحد في عام 2008. نعتقد أن الحرب وتأثيرها على الشرق الأوسط، أكبر مزوّد للنفط في العالم، كانا من العوامل الجوهرية المسببة لذلك. فضلاً عن ذلك، لم يتوقف الإنتاج العراقي فحسب، إنما أهمد انعدام الاستقرار الذي خلفته الحرب في الشرق الأوسط نشاط الاستثمارات في المنطقة.

خلال حسابنا النفقات التي قدرناها بثلاثة تريليونات دولار منذ عامين، اعتبرنا الحرب سبباً وراء زيادة سعر برميل النفط بمعدل خمسة دولارات. لكننا نعتقد اليوم أنه وفق تقديرات أكثر واقعيةً لأثر الحرب على الأسعار، ولو أنها لاتزال حذرة، تصل الزيادة إلى عشرة دولارات على الأقل للبرميل الواحد. يضيف ذلك تكاليف مباشرة بقيمة لا تقل عن 250 مليار دولار إلى تقديراتنا الأساساية لثمن الحرب، لكن تكلفة هذه الزيادة لا تتوقف عند هذا الحد، إذ كان لارتفاع أسعار النفط أثر مدمر على الاقتصاد.    

الدين الفدرالي

لا شك في أن حرب العراق زادت الدين الفدرالي إلى حد كبير. كانت تلك المرة الأولى في التاريخ الأميركي التي تخفّض فيها الحكومة الضرائب خلال خوضها حرباً، وكانت النتيجة حرباً مموّلة كلياً بواسطة القروض. على إثر ذلك، ارتفع الدين الأميركي من 6.4 تريليونات دولار في مارس 2003 إلى عشرة تريليونات دولار في عام 2008 (قبل الأزمة المالية)، مع العلم بأن ربع تلك الزيادة على الأقل يُعزى مباشرةً إلى الحرب. كذلك لا تتضمن الزيادة نفقات الرعاية الصحية ومعاشات العجز المستقبلية لقدامى المحاربين، ما يضيف نصف تريليون دولار آخر إلى الدين.

وهكذا، بنتيجة حربين باهظتي الثمن وممولتين بالدين، ساءت حال خزانتنا حتى قبل اندلاع الأزمة المالية، وقد فاقمت هذه المصائب المالية التردي الاقتصادي.

الأزمة المالية

نجمت الأزمة المالية العالمية، جزئياً على الأقل، عن الحرب. بالنظر إلى ارتفاع أسعار النفط، كان المال الذي يُفترض إنفاقه محلياً يُستخدم لشراء النفط في الخارج. في الوقت عينه، لم يساهم الإنفاق الحربي في تحسين الاقتصاد بقدر ما كانت أشكال الإنفاق الأخرى لتفعل. فالأجر الذي كان يُدفع للمقاولين الأجانب العاملين في العراق لم يكن محفّزاً فعالاً على المدى القصير (ليس مقارنةً بالإنفاق على التعليم، والبنية التحتية أو التكنولوجيا) أو أساساً لنمو طويل الأمد.

في المقابل، استمرت العجلة الاقتصادية بالدوران بسبب السياسة النقدية والتنظيمات المتراخية، إلى أن انفجرت فقاعة الإسكان متسببةً بالتردي الاقتصادي السريع والحاد.  

من الصعب دوماً الحديث عن تكاليف الفرص البديلة، لاسيما في ما يخص أزمة معقدة مثل الأزمة المالية العالمية التي اندلعت نتيجة عوامل مسببة كثيرة. لعلها كانت ستحدث في جميع الأحوال، لكن حتماً لكانت الفقاعة أصغر وعواقب انفجارها أقل حدةً لو أن الإنفاق ازداد محلياً ولم يكن هناك داع لخفض أسعار الفائدة إلى هذا الحد والتساهل في اللوائح التنظيمية لتحريك العجلة الاقتصادية في غيابها. بعبارة أوضح، ساهمت الحرب بشكل غير مباشر في السياسة النقدية واللوائح التنظيمية الكارثية.

مع ذلك، لم تساهم حرب العراق في تفاقم الأزمة المالية فحسب، إنما منعتنا من اتخاذ إجراءات الرد الفعالة. نظراً إلى زيادة المديونية، لم يكن أمام الحكومة مجال واسع للتحرك كما كان الحال عادةً. بعبارة أدق، أدت الهواجس بشأن الدين والعجز اللذين تضخما بسبب الحرب إلى تقييد حجم المحفزات، وواصلت إعاقة قدرتنا على مواجهة الركود. لذا في الوقت الذي لايزال فيه معدل البطالة مرتفعاً بشكل ثابت، تحتاج البلاد إلى محفّز ثان. لكن الدين الحكومي المتفاقم يشير إلى أن ذلك المحفز لا يحظى بدعم كبير. بنتيجة الأمر، سيكون الركود أطول، والناتج أقل، ومعدّل البطالة أعلى، والعجز أكبر مما كانت عليه لو أن الحرب لم تقع.

إعادة تصور التاريخ وصياغته عمل محفوف بالمخاطر. مع ذلك، يبدو من الواضح أنه لولا هذه الحرب، لارتفعت مكانة الولايات المتحدة في العالم، ولأصبح اقتصادنا أكثر قوةً. ويبقى السؤال اليوم: هل نستطيع استخلاص العبر من هذه الغلطة الباهظة الثمن؟

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top