هناك في العالم، كُتابٌ ظلوا مغمورين على الدوام، روبرت فالزر أحد هؤلاء. وهو كاتب من القرن المُنصرم. ظل مجهولا لسنوات طويلة في أوروبا، إلا أنه في براغ كان كافكا يقرأ روايته «جالوب فون كونتن» بصوتٍ عالٍ وبإعجاب شديد، وقد كتب إلى صديقه «إيزنر» رسالة يُعبر فيها عن حماسه الشديد لأعمال روبرت فالزر.

Ad

ليس هذا فحسب، بل ان رئيس كافكا في شركة التأمين التي عمل فيها قد علّق مرة وهو يخاطب كافكا قائلاً: «تبدو حالماً وشارد الذهن، كما لو كنت أحد شخصيات روبرت فالزر، هل تعرفه شخصياً؟ وبالطبع لم يكن بين الكاتبين أية علاقة شخصية.

في نفس السنة التي دخل فيها مصحة «سنتيريوم» كان الناقد الألماني فالتر بنيامين ينشر أول دراسة عن أعماله. كان فالزر كاتبُ الهاوية هذا مسحوراً بعوالم الروح، وقد وصف مرة الغرفة التي كان يكتب فيها بأنها غرفة الأشباح.

وكان كارل زيلغ صديق فالزر الوحيد قد نشر في عام 1957 كتابه «نزهات مع روبرت فالزر»، وكان قد سأله مرة وهو في المصحة عن سبب امتناعه عن الكتابة، فأجاب فالزر: لستُ هنا من أجل الكتابة، بل لكي أكونَ مجنوناً.

وُلد فالزر (1878- 1956) في مدينة بيرل بسويسرا. وكان أخوه كارل فالزر أحد أشهر مُصممي الديكور المسرحي في برلين في القرن الماضي. عام 1895 ترك روبرت فالزر مدينته لأول مرة ليعمل سكرتيراً في أحد بنوك مدينة بازل، ثم انتقل بعدها إلى شتوتغارت بناء على دعوة من أخيه مُشتغلاً في شركة للإعلانات. في تلك الفترة أحبّ فالزر المسرحَ وكان يتردد باستمرار على مسرح شتوتغارت، وكانت رغبته أن يُصبح ممثلاً مسرحياً، إلا أنه فشل فاتجهَ بعد ذلك إلى الشعر.

في زيوريخ نشر مجموعته الشعرية الأولى عام 1899 ورغبة منه في أن يؤسس نفسه ككاتب انتقل إلى برلين، وهناك بدأ بكتابة روايته الأولى «أحفاد تانير»، رواية أقرب إلى السيرة الذاتية يتحدث فيها الكاتب عن علاقته بأمه: «إنني بحاجة ماسة إلى معاملة حنونة، لكن هذا لم يحدث أبداً»، تتحدث الشخصية الرئيسية في الرواية.

في برلين تعرف فالزر عن طريق أخيه إلى الوسط الأدبي والثقافي في تلك الفترة، وكانت أكثر مراحل حياته خصوبة من الناحية الأدبية، إذ نشر أربع روايات. ولأسباب مجهولة أحرق ثلاثاً من رواياته.

لقد اصطدم فالزر مع ناشره أكثر من مرة، الأمر الذي خلق في نفسه أزمة نتيجة إحساسه المُبكر بالفشل، فانغمس في تجربة الكحول وهو يعاني مصاعب معيشية جمة، إلا أن سيدة ثرية غير معروفة أعانته حتى وفاتها سنة 1913 فاضطرته الحياةُ بعد ذلك إلى مغادرة برلين للمرة الأخيرة عائداً إلى قريته بيرل ليسكُن في فندق بائس سيئ التدفئة، فتدهورت حالته الصحية.

عام 1925 نشر روايته «الوردة» كما نشر مجموعة من أعماله القصيرة في بعض المجلات والملاحق الثقافية. وعندما تدهورت حالته الصحية على نحو حاد، حاولَ الانتحار. في عام 1929 دخل روبرت فالزر لأول مرة المصحة العقلية اختيارياً، نتيجة إصابته بالشيزوفرينيا، إلا أن فالزر لم يتوقف عن الكتابة في السنوات الثلاث الأولى حتى جاء قرار المستشفى بحرمانه من غرفته الانفرادية التي كان يسكن فيها، وتحويله إلى عنبر عام للمجانين، دشن هذا الأمر رسمياً وجوده كمختلٍّ عقلي فقرر بنفسه عدم الاستمرار في الكتابة.

كان صديقه كارل زيلغ الوحيد الذي يتردد إلى المصحة لزيارته، وكانا يخرجان للتنزه سوياً، وكان يتخلل تلك النزهات صمت باردٌ وثقيل.

عاش فالزر الـ27 سنة الأخيرة من حياته في صمت وهدوء تامين حتى موته في ليلة عيد الميلاد عام 1956 ميتة تراجيدية. إذ في إحدى نزهاته الليلية، وكان الثلج يتساقط فيها بغزارة سقط الكاتبُ في الحقل الذي كان فيه وحيداً، وكانت الكلاب قد تجمعت وهي تنبحُ حول جثته. إلّا أن المفارقة في الأمر اكتشاف مخطوطاته، هذه المخطوطات التي كان يكتبها بصمت وسرّية (بخط لا يُرى بالعين المجردة) ونشرت عام 1976م.