يبدو أن العقد الثاني من هذا القرن سيشهد أزهى عصور الوشاية على الإطلاق؛ ذلك أن "الإنترنت" استطاعت أن تبرهن على كونها "سلطة خامسة عابرة للسلطات كلها، ومستفيدة من أنها تملك نفاذاً نادراً، وقدرة على الفعل والتأثير، وآليات تشغيل تمنحها الفرص لممارسة أدوارها بأقل قدر ممكن من القيود والضغوط.
ظل "الإعلام التقليدي" يجاهد عبر عشرات السنين، ليرسخ وضعه كـ"سلطة رابعة" رمزية ذات دلالة اعتبارية، ويوسع هوامش حرياته، ويزيد المساحات التي يمكن أن ينشط فيها، ويقلص ما يحد من انطلاقه من قيود، لكنه مع ذلك لم يفلح كثيراً في خرق الخطوط الحمراء، خصوصاً تلك التي تتعلق بغيره من السلطات الأكثر رسوخاً، والتي تستمد هيمنتها من الاستحقاقات الدستورية وامتلاكها القدرة على اجتراح الأفعال وليس الوقوف عند حد الأقوال.اجتهدت الأكاديميات الإعلامية حول العالم في تشخيص أنماط الانحياز التي تعتري أداء "الإعلام التقليدي" في شتى الأجواء، فاستطاعت أن تحصي نحو عشرين نمطاً؛ منها انحيازات المحاباة، وتشويه الحقائق، واختيار المصادر، والتنميط، والمبالغة، والتهوين، والاستحسان، والاستهجان، لكن نمط الانحياز الأكبر الذي ظلت المنظومات الإعلامية التقليدية تعاني آثاره الفادحة على الدوام لم يكن سوى عدم قدرتها على نشر كل ما تحصل عليه أو يصل إليها من أخبار.لقد طورت منظومات "الإعلام التقليدي" وسائل التنظيم الذاتي المختلفة، فأعدت مواثيق الشرف، والأدلة التحريرية، وبيانات القيم المهنية، وعولت كثيراً على "الرقابة الذاتية"، حيث بات الإعلامي يقرأ الهامش المتاح كل صباح، ويسعى إلى السير ضمن الخطوط، التي تبقيه بعيداً عن السجن أو المساءلة، وتحفظ لوسيلته حقها في استدامة الصدور والبث.فإذا عجزت المنظومة الإعلامية عن تطوير تنظيمها الذاتي بالشكل الذي يحقق المعادلة السحرية التي تبقيها فاعلة وحرة نسبياً من جهة، وتحفظها من المساءلة أو التعطيل أو الإلغاء من جهة أخرى، كانت الرقابة الصلدة موجودة ومهيمنة، لتمكّن السلطات الفعلية من حماية نفسها، بل وتتيح للأطراف المستاءة من التغطية الوصول إلى الأمن أو القضاء، وتحقيق أهدافها في صيانة أوضاعها بعيداً عن "الاختراقات" الإعلامية.وظلت تلك المعادلة صالحة للعمل وضبط الأوضاع عقوداً عديدة، فما ستخفق آليات التنظيم الذاتي في ضبطه وإبقائه بعيداً عن الخطوط الحمراء، ستتكفل قوى السلطات والأطراف الأكثر صلابة به، لينضبط الأداء الإعلامي ضمن حدود تسمح له بالحديث عن "الحرية والتأثير والقدرة النسبية على التغيير وملاحقة الفساد" من جهة، ولا تورده موارد الصدام والتهلكة من جهة أخرى.لكن المعادلة تغيرت، فقد طورت "الإنترنت " وسائل للبث من حاضنات متعددة؛ بعضها معلوم والآخر مجهول المرجعية والهوية، كما استطاعت أن تؤمّن أعداداً من النطاقات التي تتيح لها استدامة البث ضد إرادة السلطات، وظلت القدرة على تخطي إجراءات الحظر موجودة لدى قطاع من المستخدمين بشكل يحد من القدرة على حجب المواقع أو تعطيلها.ومع ذلك، فقد بقيت الوسائل القانونية قادرة على ملاحقة من يتجاسر ويخرق الخطوط الحمراء عبر بث مواد خطيرة أو غير مقبولة على "الإنترنت "، لكن هذا الأمر بات اليوم محل شك كبير.في منتصف شهر يونيو الماضي، تبنى البرلمان الأيسلندي بالإجماع تشريعاً يسمى "مبادرة الإعلام الحديث لحماية وشاة المعلومات السرية حول العالم"؛ وهو التشريع الذي سيمكن الدولة الأيسلندية من فرض مظلة الحماية على مطلوبين حول العالم بتهم تتعلق ببث مواد خطيرة أو غير مقبولة أو تتعارض مع الأمن والمصالح الوطنية لأي دولة أو جماعة أو منظمة.وكان وراء تبني هذا التشريع صحافي وناشط أسترالي يدعى جوليان أسانغ، وهو الرجل الذي تصدر الأخبار على مدى الأسابيع الفائتة، كونه مسؤولاً عن موقع "الوشايات" الأول في العالم "ويكيليكس"، الذي وضع البنتاغون في موقف حرج، حين نشر نحو 75 ألف وثيقة سرية شديدة الخطورة عن حرب أفغانستان، وأعلن عزمه نشر 15 ألف وثيقة أخرى أكثر خطورة بعد تدقيقها.انطلق "ويكليكس" في مطلع عام 2007، معلناً تبعيته لمنظمة سويدية تهدف إلى الدفاع عن الحريات ومحاربة الفساد، خصوصاً في الدول التي تحكمها أنظمة قمعية، لكنه لم يستثن أيضاً الدول الغربية التي تقع فيها حالات فساد جديرة بأن تذاع على العالم.ثمة نظريات عديدة في تفسير المنطلقات التي يعمل من خلالها "ويكليكس"؛ بعضها يحسن النوايا بالموقع، ويعتبره وسيلة لـ"ضرب الظالمين بالظالمين"، ومنحة من "الإنترنت " للحرية والشعوب المضللة والمغلوبة على أمرها، وبعضها الآخر يتحدث عن "مؤامرة" تذهب بالموقع إلى خدمة أجهزة استخبارات أو أنظمة أو أجنحة في دوائر الحكم. ويستمد "تفسير المؤامرة" وجاهته من حجم الموارد والجهد المنصرف لتدقيق الوثائق وبثها عبر الموقع من جهة، ومن كون تلك الوثائق تخدم استراتيجية جناح في الإدارة الأميركية يرغب في تسريع الانسحاب من أفغانستان أو الحط من شأن القيادة العسكرية الأميركية السابقة للحرب من جهة ثانية.على أي حال، يبدو أن "البنتاغون" كما لم تفلح في وقف بث الوثائق السابقة، لم تصل أيضاً إلى اتفاق يمكنها من تدقيق الوثائق المنوي بثها لاحقاً، وإزالة الأسماء والمعلومات التي يمكن أن تعرض أرواح جنود أميركيين أو عملاء أفغان وباكستانيين للخطر، لكونهم تعاونوا مع جيش الاحتلال.وسيتمكن "ويكليكس" من بث ما يريد من وثائق، وسيشجع آخرين على تزويده بالمزيد في بلدان شتى، وسيمتلك الكثير من النطاقات والخوادم في أكثر من بلد، وسيظل مديره أوسانغ بمنأى عن التوقيف تحت حماية "قانون الوشاية الأيسلندي" حيث يعيش الآن، وستشهد "الإنترنت" المزيد من عرض فضائح الفساد والانتهاكات وأسرار الجيوش والحكومات والعروش من دون قدرة كبيرة على إسكاتها أو تقليم أظافرها.وحتى يبلغ "الإعلام الجديد"، وفي القلب منه "الإنترنت"، مبلغ الرشد، ويسعى إلى تطوير تنظيم ذاتي يحفظ له حقه في البث من دون الافتئات على الحريات والمصالح المعتبرة للآخرين، ومن دون تعريض أرواح الأطراف والأشخاص المنخرطة في الأحداث للخطر لكون أسمائها وردت في التغطيات والوثائق السرية المسربة، فسنصل جميعاً إلى أزهى عصور الوشاية، حيث ستثبت لنا "الإنترنت " أنها قادرة على التلاعب بنا كما تلاعبنا بها.* كاتب مصري
مقالات
«ويكيليكس»... أزهى عصور الوشاية
22-08-2010