كنت قد كتبت من قبل نصاً عن المكتبة والكتاب، وها أنا أعود لأكتب ثانية ولكن بتنويع آخر. غالباً ما يستحضرني في هذا المجال قول فرناندو بيسوا، «الكتب هي تمثيلات للأحلام». قبل فترة حاولت أن أشحن مكتبتي من مسقط إلى مدينة مالمو في السويد، فلم أوفق لأسباب كثيرة، لكن بعد هذه الأشهر الطويلة، وصلتني الكتب، لكن هل تصل الكتب بسهولة إلى وجهتها؟ لا أظن. وهذا ما حدث. لقد وصلت الكتب بعد أن قطعت بلداناً ومدناً لتصل إلى العاصمة استوكهولم في الشمال، بينما كنت أنتظرها في مالمو أقصى جنوب السويد. وبعد اتصالات ومراجعات لا تحصى من أجل تحويلها إلى مالمو، انتقلت الكتب واتخذت مساراً آخر، فقفلت خطاً عائدة مرة أخرى إلى بلد آخر الدنمارك، ومن الدنمارك إلى السويد مرة أخرى، وكنتُ أنا أطاردها مثلما أطارد فراشة عنيدة.
كيف نقرأ الكتب؟ كيف تقرأنا؟أتذكر كل هذا وأنا أحلم بهذه الكتب التي اقتنيت بعضها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وأردت أن أحتفظ على الأقل بما تبقى منها بعد أن لاحظت أنها تنقص باستمرار. الكتاب مميت هذا مؤكد، صفته هذه تجعل منه أيضاً لهذا السبب بالذات نزهة روحية في غابات المعرفة. كل كتاب يستحق القراءة، هو في نهاية المطاف، إغراء وحشي متبادل بين الكتاب والقارئ. وقد يصل هذا الإغراء إلى تخوم التواطؤ الخلاق. لهذا ربما نهتم بالمكتبة، واعني هنا المكتبة الخاصة أو المكتبة المنزلية تلك الرفوف الخشبية المعتقة ذات الرائحة واللمعة القديمة هي ما أفضل. الكتب أيضاً نعمة إلهية لذلك ذكر في الكتب المقدسة. للكتّاب والفنانين حكايات بالغة التنوع مع الكتب ومواصفات ذوقية مختلفة للمكتبة الشخصية. هناك كتب ترحل مع أصحابها «مقتنيها»، أينما حلّوا حلّت معهم، وهناك كتب يتخلى عنها قسراً أحياناً. هناك كتب تستعار فتذهب إلى أيدي الأصدقاء ومن ثم إلى مكتباتهم الخاصة. هناك كتب مستعارة تعود إلى أصحابها حتى بعد مرور سنوات طويلة، وأخرى لا تعود بالطبع. هناك كتب نادرة وثمينة بنسخ مرقمة أحياناً وكتب أخرى بحروف مطبعية لم تعد قائمة في وقتنا الحاضر. هناك كتب مهداة من قبل مؤلفيها وأخرى من قبل الأصدقاء. كتب ترتبط بمناسبات خاصة وأخرى بلا مناسبات، كتب بسبب عمقها تُقرأ مراراً، وإعادة القراءة هذه امتحان للحقيقة كما يشير خوان غويتسولو. وأخرى تُقرأ بنظرة واحدة ومن العنوان أحياناً. كل كتاب من هذه ضيف في مكتبة ما، على تلك الرفوف، في ذلك البيت. لكن ماذا يفعل المثقف والكاتب حينما يُضطر إلى الرحيل، طواعية أو قسراً من مكان إلى آخر من بلد إلى آخر، من منفى إلى منفى وعبر مساحات شاسعة أحياناً. كتب الشاعر سعدي يوسف في عام 1987 على ما أذكر نصاً نثرياً قصيراً عن المكتبة الخاصة. سعدي المترحل الدائم وصاحب الإقامات المؤقتة في أكثر من مدينة وبلد، أقول استحضر عملية صنع مكتبة في المنزل، بدءاً من الخشب والمطرقة وانتهاء بالمسامير، كأنما على الشاعر أن يتحول إلى نجار أيضاً. أصر بورخس على الدوام، في كتابات كثيرة له، على فكرة الكتاب والمكتبة عمل أيضاً في هذا المجال كأمين عام لمكتبة بوينس آيرس، واعتبر الكتاب فكرة تنفتح على اللانهائي، وهي فكرة تحمل حيزاً واسعاً في كتاباته. هناك كتب حقيقية وكتب من اختراعه. كتب تحمل معرفة قاتلة وأخرى تقرأ كما الأحلام. مكتبات بضوء كتيم، ذات طابع سريّ حتى أصيب بالعمى.يشير بورخس إلى «الكون الذي يسميه آخرون المكتبة». ثم أليس هو القائل في عمله «مكتبة بابل» إن المكتبة موجودة أبداً وليس بوسع عقل منصف أن يرتاب في هذه الحقيقة التي تعني مباشرة خلو العالم مستقبلاً»، في قصيدة له يقول:وأنا الذي تخيلتُ الجنةمن نوع المكتبة.وفي مقطع آخر من كتابه الصانع كتب بورخيس:في مدينة الكتب هذه جعل من هاتين العينين،حكاماً عُمياً، لا يقدرون إلا أن يقرأوافي مكتبات الأحلام، المقاطع الدقيقةالتي يقدمها كل فجر جديدلهمّ موقظٍ وعبثاً يبدد النهار عليهماكتبه اللانهائيةالصعبة صعوبة الأسفارالتي أحرقت في الإسكندرية.فكرة الكتابة والمكتبة هي واحدة من تحويلات بورخيس الكبرى. بما أن العالم وفق رؤيته كناية عن كتاب شامل. يذكر بابلو نيرودا في مذكراته، بافتخار بأن تشي جيفارا، قبل القبض عليه ومن ثم قتله، عندما كان يجوب غابات وأحراش بوليفيا، كان يحمل في زوادته كتابين أحدهما «النشيد العام» مجموعة نيرودا الشعرية، والآخر كتاب عن علم الرياضيات. نيرودا نفسه كان أحد هؤلاء الشعراء المولعين باقتناء وجمع الكتب والقواقع من مختلف أنحاء العالم، وها هو يقول: «إن هاوي الكتب الفقير له مناسبات لا نهاية لها من المعاناة والعذاب. فالكتب لا تفر من بين يديه بل تعبر أمامه عبر الهواء في طيران عصفور، في طيران أسعار غالية. غير أنه بعد تنقيب وبحث عسير تبرز الدّرة».
توابل
رحلة الكتاب
17-11-2010