أرسل إلي القارئ بندر، الذي هو أيضاً كاتب متميز في كتاباته، وإن كان عازفاً عن النشر، رسالة إلكترونية «إيميل» يقول فيها: «إنه متردد في إرسال كتاباته إلي خوفاً من أن يكون رأيي فيها قاسياً»، بعدما قرأ ما كتبته في حق بعض الروايات.

Ad

هذا الإيميل ذكرني ببداياتي حينما أرسلت نص «حطت امرأة وتبعثر عصفور» إلى المبدع الكبير «يحيى حقي» الذي بدوره كتب إلي رداً كان في منتهى الحنان، فإنسانيته العظيمة تلمست الجميل من النص وأشادت به، وحين أراد أن يبدي لي النصيحة قالها بلطف وبرقة شديدة، وكأنه يلوم نفسه على توجيهه لي أو نصحي، فقد كتب في رسالته جملة يقول فيها: «حين تاهت رأسي في السماء، تمنيت لو أن أقدامي ثبتت في الأرض، ولكن هذا النص كُتب في نفس واحد فلا يحق لي تغييره».

وكان كلامه حقيقياً فقد كتبت النص في ليلة واحدة وبدفقة واحدة، وها هي الأيام تدور ليأتي من يسألني ذات السؤال.

وجوابي كان: رأيي الذي أكتبه في ما اقرأه هو انطباع خاص بي، وناتج عن تجربتي الفنية في الكتابة الشعرية والمسرحية والروائية التي جعلت من أي نص اقرأه يتحول تحت بصري إلى خيوط من نسيج تفكك، وعاد إلى شكل المادة الأولى فيه، وبالتالي أدرك الكيفية التي تمت بها عملية نسجه، إن كانت جيدة أو ممتازة أو عادية أو فاشلة مثلاً، وهذا الإدراك بصراحة عقدني كثيراً وخوفني من الكتابة، فبعدما كنت أكتب بصورة عفوية من دون إدراك الأسرار الفنية والتقنية بشكل واع لها، أصبحت أتردد كثيراً وأنظر إلى كل كتابة على أنها دون المستوى المطلوب للكتابة المتميزة، ولذا أصبحت الكتابة بالنسبة إلي إما أن تكون ذات مستوى عالمي أو «بلاها أحسن». ولكن الحكم يكون أسهل علي حين اقرأ كتابات الغير، فحكمي عليها أرحم بكثير من حكمي على نفسي، هذا باستثناء أحكامي على الروايات المرشحة للجوائز العالمية، فهذه يجب أن يكون الحكم عليها أكثر قسوة، لأنها يجب أن تكون في مستوى الكتابات العالمية طالما رُشحت لجوائزها. أما بالنسبة إلى الروايات أو النصوص التي هي في بداياتها أو لم ترشح لجوائز عالمية فيجب أن يكون الحكم عليها مختلفاً، فكونها في بداياتها يجب النظر إليها بحنية، وإخراج أجمل ما فيها مع الإشارة إلى نقاط ضعفها بتوجيه لطيف، بحيث يدفع الكاتب إلى تحسين كتابته وتلافي عيوبها البسيطة من غير يأس أو قنوط، وأقصد بها هذه الكتابات المتجاوزة لكل أخطاء الارتباكات الأولى وركاكتها، والتي تحمل في طياتها موهبة حقيقية مبشرة بولادة قلم ناجح، وما على كاتبها إلا الإنصات العميق إلى صوت النص في داخله، فهو وحده القادر على إعطاء الكاتب المواصفات الناجحة لكتابة النص، فكل شيء مستورد من الخارج يضعف النص ولا يفيده، مثل استيراد التقنيات وفرضها على النص الذي هو ليس في حاجة إليها.

كذلك يجب الانتباه إلى اللغة، فأحياناً تكون اللغة محطمة للنص، ومثال على ذلك رواية «مكنسة الجنة» لمرتضى كزاز التي لم أستطع إكمال قراءتها بالرغم من أهمية النص، لكن اللغة التي تشتت ما بين البلجيكية وترجمتها، واللهجة العراقية الشديدة المحلية، واللغة العربية، قضت على قوة المضمون، ولم تستطع أن توصله إلى القارئ مما شكل في رأيي خسارة كبيرة لرواية جاءت بمضمون جديد ومغاير.

ويبقى على الكاتب في الأول والأخير أن يستفتي قلبه، ويحكم به على صلاحية نصه وفي رضائه عنه أو عدم الرضا، فالقلب هو الحكم الأول والأخير.