تتعاظم الضغوط على الثورة المصرية يوماً بعد يوم، لكن الغموض الذي يهيمن على الأوضاع، والانفلات الأمني، ونزيف الاقتصاد، ومحاولات الطبقة الحاكمة السابقة إعادة إنتاج نفسها، تظل أبرز العوامل التي يمكن أن تحد من انطلاقة الثورة وتمنعها من الاكتمال.

Ad

غير أن عاملاً ثانوياً بات ينتج تفاعلات غاية في الخطورة، ويلعب دوراً محورياً في تأجيج نيران توتر طائفي، يكاد يحرف الثوار عن أهدافهم، ويأخذ البلاد إلى حفرة مظلمة كئيبة، بعدما انتعشت الآمال في نجاح الثورة، وقدرتها على قيادة مصر إلى احتلال المكانة التي تليق بها.

في شهر مارس الماضي، دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يدير شؤون البلاد بعد إطاحة الرئيس السابق حسني مبارك، المواطنين إلى استفتاء على بعض التعديلات الدستورية، إذ احتشدت التيارات الإسلامية للتصويت بـ»نعم»، وهو الأمر الذي يتيح لها الوصول سريعاً إلى انتخابات برلمانية مقررة في سبتمبر المقبل، وبالتالي حصد أغلبية المقاعد، بسبب تمركزها الجيد في أعماق البلد، مقارنة بالتيارات الليبرالية واليسارية والقومية الأخرى.

وعندما تحقق للتيارات الإسلامية هذا الهدف، وفازت «نعم» في الاستفتاء، أطلق أحد قادة السلفيين في مصر على الاستفتاء لقباً شديد الإيحاء... لقد أسماه «غزوة الصناديق». يحلو للإسلاميين في العديد من البلدان العربية إطلاق لفظ «غزوة» على كل عمل ينال من أعدائهم أو خصومهم، سواء كان هذا العمل قتالياً أو سياسياً، طالما كان يتم تحت دعوى «نصرة الإسلام»؛ ولذلك يمكن القول إن ثمة «غزوات عاطفية» قد يقصد بها البعض «نصرة الإسلام» في مصر الآن، لكنها تكاد تشعل فتنة طائفية عارمة، قد تضع البلاد في نفق مظلم عفن.

إذا كتبت اسم «ماجدة ثابت جورج» على محرك البحث «غوغل»، فستجد لها أكثر من عشرة آلاف نقرة، وإذا بحثت عنها في موقع «يوتيوب»، فستجد لها أكثر من رابط يمكن أن يقودك إلى تسجيل يظهرها وهي تؤكد واقعة إشهار إسلامها، وهي الروابط التي تمت مشاهدتها من قبل ما يزيد على 100 ألف مشاهد، وجذبت آلاف التعليقات والتقييمات.

تحولت «ماجدة» في أيام قليلة جداً، من فتاة إنجيلية بسيطة، لم تتم عامها التاسع عشر، وتعيش في محافظة بني سويف بصعيد مصر، إلى وجه مشهور، وقد عرف عشرات آلاف المصريين بقصتها، ودخل بعضهم في تلاسن حاد مزر على خلفية طائفية ممقوتة بسببها، وقد تتحول قريباً إلى مشروع اقتتال طائفي جديد، وتفجر أزمة دينية، تضاف إلى غيرها من الأزمات التي أضجرت المصريين وعوقتهم عن الوفاء باستحقاقات تحولهم الثوري إلى الديمقراطية والحداثة وتحقيق العدل والكرامة وبناء المستقبل.

تقول «ماجدة»، في الشريط الذي بثه موقع يدعى «المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير»، إنها أسلمت منذ سبع سنوات، أي عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتبرر إسلامها بأنها لم تكن على وفاق مع أهلها وعشيرتها من المسيحيين بسبب «الكذب»، وبأنها سمعت آيات من القرآن من زملائها، وأن صلاتها كمسيحية من دون أن تتحجب كانت تؤذي مشاعرها. لا يكمن الإشكال في كون ماجدة في التاسعة عشرة من عمرها ومن دون تعليم، ولا زعمها الإسلام في سن الثانية عشرة، ولا تلعثمها الواضح عند محاولتها قراءة «سورة الإخلاص»، ولا طعنها في أخلاق أهلها وعشيرتها السابقة من المسيحيين، ولا في ضحكاتها الممجوجة «غير المسؤولة» وهي تفجر قضيتها في المجال العام، ولا في زملائها في «المرصد الإسلامي» الذين يضحكون على خلفية صورتها ابتهاجاً بـ»النصر» الذي حققوه في معركتهم لـ»مقاومة التنصير»، ولكن الإشكال يكمن حقاً في ما صرحت به «ماجدة» بوضوح بشأن «شاب مسلم كان يحفظها القرآن عبر الهاتف»، وفي أنها ترتبط بعلاقة به، وأن أهلها وآباء بالكنيسة حضوا شباناً مسيحيين على التقرب منها، عسى أن تجد ميلاً إلى أحدهم، فتنصرف عن ارتباطها بهذا الشاب المسلم. إنها إذن «غزوة عاطفية» مكتملة الأركان، قام بها «شاب مسلم همام من حماة الدين»، وبدعم من «هيئة إسلامية تقاوم التنصير عبر أسلمة القاصرات المسيحيات»، وفي مواجهة خصوم من الفريق المضاد فشلوا في «المواجهة العاطفية»، وباستخدام أدوات «الإعلام الجديد» لتكريس النصر وتأجيج المنافسة. لكن تلك الغزوة، التي تكللت بالنجاح، ستستدعي ردوداً وكراً وفراً عاطفياً، وستأخذ الجميع إلى مواجهة مخزية لا رابح فيها سوى أعداء المسيحية والإسلام ومصر في آن. منذ قديم الأزل، تستخدم المرأة في حروب القبائل والدول والجماعات وأتباع الحضارات والأديان، ويعد السبي مفهوماً قتالياً بامتياز، إذ تُستباح نساء الفريق المغلوب، ليضفن إلى عار الهزيمة، الذي يمكن أن يزال بنصر مضاد، عاراً لا يمّحي أبداً كونه يتعلق بـ»الشرف»، ولا يبقى لمن طاله الأذى في «غزوة عاطفية»، سوى الرد بـ»أحسن منها».

ظلت الفحولة الجنسية والسيادة العاطفية مبدأ من مبادئ حروب الأزمنة الغابرة والحديثة، وظل الاغتصاب وخطف الإناث إحدى أدوات التطهير والإذلال، لكن أبشع ميدان لـ»الغزوات العاطفية» ليس إلا ميدان التنافس والتناحر الدينيين.

في عام 2005، نشبت فتنة طائفية في ديروط بصعيد مصر قُتل فيها عدد من الجانبين، حينما روج فتى مسيحي «سي دي» يحوي مشاهد إباحية لممارسته علاقة محرمة مع فتاة مسلمة، وقبل عامين هاجم أفراد من عائلة مسيحية منزل ابنتهم التي أسلمت لتتزوج من فتاها المسلم، فقتلوها هي وزوجها في وضح النهار. وكانت «كاميليا» زوجة القس، التي أشيع على نطاق واسع أنها أسلمت لكونها على علاقة بأحد زملائها المسلمين، وقبلها وفاء قسطنطين، سبباً مباشراً في اندلاع فتنة لم يتم احتواؤها حتى الآن.

وقبل عشرة أيام، كانت عبير، المسيحية التي هربت من زوجها، وادعت الإسلام، بعد زواجها عرفياً من شاب مسلم، سبباً في اندلاع أحداث طائفية مرعبة في منطقة إمبابة بالجيزة، راح ضحيتها 15 قتيلاً وعشرات الجرحى وكنيستين.

تتشكل تجمعات وائتلافات واسعة، وتُنصب اعتصامات وتظاهرات دورية، وتُكتب مقالات وتدار حلقات نقاش على الفضائيات من قبل تيار إسلامي عريض تحت عنوان «استرداد الأخوات الأسيرات»، اللاتي لم نعرف منهن سوى زوجات على خلاف مع أزواجهن، أو فتيات قاصرات أردن الوقوع في حب شبان من الدين الآخر.

«الغزوات العاطفية» المتبادلة بين الجانبين في مصر أصبحت أمراً ماسخاً ممجوجاً، لكنها تتلقى تمويلاً مالياً، ودعماً لوجستياً، وترويجاً إعلامياً، وغطاء دينياً، وتمترساً سياسياً، والكثير من التنطع والتبجح.

وإلى أن تجف منابع «الغزو الطائفي» الذي يستخدم ذرائع عاطفية بين الجانبين، ويحاسب هؤلاء الذين يستخدمون هذه اللعبة السخيفة في تحقيق مآربهم الوضيعة حساباً قانونياً صارماً، ويعي المجتمع أن مثل تلك الأحداث أقل وأتفه وأسخف من أن تصرفه عن قضاياه الجادة وأولوياته الملحة، ستظل هذه الأزمات تندلع يوماً بعد يوم. ويبقى الإشكال الكبير منحصراً في قدرة المجتمع المصري على اجتراح، وقبول، آليات وقوانين جديدة؛ مثل «الزواج المدني»، يمكن أن تنظم العلاقات العاطفية العابرة بين الدينين، وتمنع تحولها إلى أزمات طائفية، وهي مسألة دونها الكثير من الأهوال والعقبات الجسام.

* كاتب مصري