الناس، في كل مكان من هذا العالم، بحاجة إلى الأمل، وبحاجة إلى من يذكّرها بأنها قادرة على عمل شيء بالرغم من كل المعوقات، وأن أمتها لاتزال بخير، ولاتزال قادرة على إنجاب أبناء لها قادرين على التغيير والنهوض بهم جميعا، وليس من أبناء على هذه الشاكلة ومن هذا الطراز كالعلماء! أشعر أنه مهما انحدرت الحالة الثقافية، وتخلف واقع المجتمعات، يبقى للعلماء، في أي مجال كانوا، مهابتهم وقيمتهم، يبقى ذلك في قلوب عموم الناس على الأقل. خصوصاً عندما لا يتلوث هؤلاء العلماء بأدران السياسة، ولا يوالون الأنظمة المتسلطة، وعندما لا يتورطون في الفتن المجتمعية التي قد تميل بهم لفئة على حساب أخرى في مجتمعاتهم.

Ad

أحسست بهذا الشعور بقوة في المرة الوحيدة التي التقيت بها الدكتور أحمد زويل، العالم المصري الذي حاز جائزة «نوبل» في عام 1999م، وكان ذلك في الدورة التاسعة من منتدى الإعلام العربي الذي عقده نادي دبي للصحافة في النصف الأول من هذا العام.

هناك وحين تحدث زويل أمام المئات من الإعلاميين الذين حضروا المنتدى، شاهدت وشعرت بحجم الانبهار والإعجاب والتقدير والحب لهذا العالم الفذ، وكيف استقبله الناس بتصفيق لم يكد يتوقف، وكيف لف الصمت والوقار تلك القاعة الفسيحة من طرفها إلى طرفها حين تحدث، وكيف تدافعوا بعدها للسلام عليه ومصافحته.

إن الناس، في كل مكان من هذا العالم، بحاجة إلى الأمل، وبحاجة إلى من يذكّرها بأنها قادرة على عمل شيء بالرغم من كل المعوقات، وأن أمتها لاتزال بخير، ولاتزال قادرة على إنجاب أبناء لها قادرين على التغيير والنهوض بهم جميعا، وليس من أبناء على هذه الشاكلة ومن هذا الطراز كالعلماء!

حين حاز زويل جائزة «نوبل»، كتب الشاعر الجميل فاروق جويدة في الأهرام المصرية يقول: «إن نوبل زويل أجمل صدفة أسعدت شعبا بأكمله، رغم أن الرجل لم يصل إلى ما وصل إليه بطريق الصدفة»، وأنا أقول إن زويل لم يسعد الشعب المصري لوحده يومها، بل أسعد الأمة العربية بأسرها، وبث في أوصالها الأمل.

والناس تقدر زويل وأمثاله، وتجلهم حتى وهي لا تدرك ولا تعلم ماذا فعلوا، ولا إلى ماذا توصلوا، بل لا يهمهم ذلك في الحقيقة، فحين قامت إحدى الصحف بسؤال الجماهير المصرية المحتشدة احتفالا بزويل عما فعله، كانت إجابتهم بأنهم غير معنيين بما أنجزه، بقدر ما أنه قطعة من لحمهم ودمهم، وقد أنجز ما أنجز. وأستذكر أنا كذلك كيف أن إحدى الإعلاميات في منتدى الإعلام العربي، وبعدما انتهى زويل من محاضرته، سألته عن كيفية علاج أحد الأمراض النادرة، ظنا منها بأنه طبيب، في حين أنه عالم كيمياء.

ويذكر الأستاذ أحمد المسلماني، محرر كتاب «أحمد زويل، عصر العلم»، أنه سمع زويل يقول للأديب الراحل نجيب محفوظ: «إنني أفهم أن يلتف الناس حولك، ويحتفون بك، فأدبك معروف وسهل الفهم، ومن ثم فإن تقديرهم لك يأتي عن قراءة ووعي، ولكنني أندهش من هؤلاء الذين يتركون ما بأيديهم من عمال نظافة ومقاه ومارة في الطريق ويأتون لتحيتي... إنهم لا يعرفون ماذا فعلت... ولكنهم يقدرون»! هذا الكلام الذي قاله زويل لمحفوظ، يكاد يطابقه تماماً في المعنى ما قاله آينشتاين لشارلي شابلن، حين تزاحم الناس عليهما وهما معا في أحد شوارع هوليوود، حيث قال: «لقد تجمع الناس لينظروا إلى عبقري يفهمونه تمام الفهم، هو أنت، وعبقري لا يفهمون من أمره شيء، وهو أنا»!

يا له من شعور مشرق، ويا لها من فكرة جميلة مليئة بالأمل، بأنه بعدما ينقشع غبار اللحظات العاصفة، وبعدما يتلاشى ضجيج الأبواق والطبول الفارغة، ويتساقط الذين لم يخلّفوا أثراً حقيقياً، وتنقضي الأزمنة تباعاً، لن يسفر نور الصباح إلا عن تركة العلماء الحقيقيين، وعن ذكراهم الصالحة، وأما الزبد فيذهب جفاء.