مرض اسمه الطاعة
هذا هو زمن العجائب... زمن حل فيه مفهوم الطاعة محل الديمقراطية والعقد الاجتماعي... فانهالت علينا الفتاوى واكتسحت خطاباتنا الهزيلة... وحتى نزيل اللبس والفهم الخاطئ نكرر ما قاله الأستاذ محمد النيباري، إن «مقام صاحب السمو أمير البلاد بمكانته كرئيس للدولة وشخصه الكريم هو محل احترام وتقدير واجبين... فهو رئيس السلطات ووالد وأخ للجميع، ولكن علينا أن نميز بين التقدير والاحترام الاجتماعي والتأدب وبين النظام الدستوري والسياسي. في تراث الكويت وتاريخها السياسي، الذي هو محل افتخار، لا يوجد شيء اسمه السمع والطاعة لولي الأمر». نتخبط نحن في وحل الثقافة الضحلة للديمقراطية، إذ ينسف مفهوم الطاعة ركائز الديمقراطية من تعددية ومعارضة ومراقبة ومساءلة ومحاسبة وتنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فمفهوم الطاعة وثقافة الديمقراطية نقيضان لا يجتمعان.
تلك الفتاوى التي يرددها البعض ويسوِّق لها التفسيرات المطلقة العامة، وهي في الواقع تفسيرات نسبية وتاريخية يختلف معها الكثير، متناسين قوله تعالى «وشاورهم في الأمر»، وقوله جل وعلا «ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود». ليستغل الدين أبشع استغلال حين يُسخَّر لأهداف سياسية، فيحتكر كل فريق حقيقته الدينية ويحارب مَن يخالفه في الرأي، ويخرج من ينحرف عن الطاعة الكاملة من الملة، هكذا علمنا التاريخ الدموي أن إقحام الدين في السياسة هو الخطر الأكبر الذي يقود المجتمعات إلى الطغيان والاستعباد والصراع غير السلمي.العجيب أن النائب المطير يبرر رفض تصويته على كتاب عدم التعاون في استجواب رئيس الوزراء بتلقيه «نصيحة من الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق» بوجوب طاعة ولي الأمر، والغريب أن المطير ورفاقه لم يطيعوا سمو الأمير في السابق، ولم يمتثلوا لرغبته في إعطاء المرأة حقوقها السياسية، والسؤال هنا هل قضايا الفساد وإهانة كرامات الناس والظلم تختلف شرعياً عن حقوق المرأة السياسية برأيهم؟ والأغرب أن عبدالرحمن عبدالخالق نفسه الذي يدعي اليوم وجوب طاعة ولي الأمر هو مَن حاول في سنوات خلت إدخال مفهوم «توحيد الحاكمية» على أقسام التوحيد، ذلك الفكر الذي يكفِّر الحاكم «الذي لا يحكم بما أنزل الله» حسب تفسيرهم الخاص، وهي دعوة مبطنة إلى الخروج على الحاكم والشرعية الاجتماعية. تلك المواقف المتناقضة من النواب الإسلاميين وغير الإسلاميين ومن دعاة السلف تدل على انتهازيتهم واستغلالهم البشع للدين. في الواقع، لا تحتاج مجتمعاتنا إلى فتاوى من هذا القبيل، فثقافة الطاعة بكل جوانبها سواء للقبيلة أو الطائفة أو النظام الأبوي الرعوي جزء من هويتنا التي نشأنا وترعرعنا على أنها «فضيلة الفضائل والضمان الأكبر للتماسك والاستقرار في المجتمع»، كما عبّر د. فؤاد زكريا منذ سنوات بعيدة... وما هي في رأيه سوى مرض فيه «تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا»، ... ذلك أنه «يقضي على كل إمكانات التفرد والتمرد»، والتمرد الذي يقصده الدكتور زكريا هو ذلك التمرد السلمي الذي حقق أعظم الإنجازات البشرية من قبل أفراد رفضوا أن يكونوا خانعين مستسلمين، فثقافة الطاعة لا تستقيم أبداً مع ثقافة التقدم والإبداع.الصراعات السلمية في المجتمع الديمقراطي ستبقى ما بقيت الديمقراطية، فهي الوقود الذي يحرك المجتمعات، وهي الوسيلة التي ترفض العنف وتحد منه، على عكس ما تروِّج له الثقافة الهشة أنها مدعاة للفتنة، وحيث تغيب الصراعات السلمية يسود منطق القوة في تطويع الأمة على حساب قوة القانون وحكمه.نكسة الديمقراطية في الكويت هي نكسة ثقافية بكل المقاييس... فالإصلاح السياسي لن يتأتى دون إصلاح ثقافي لمفهوم الديمقراطية وحرياتها العامة والفردية، وما ترتكز عليه من حرية اختيار ومسؤولية فردية واجتماعية، أما غير ذلك فسنبقى قاصرين منقادين لوصايا الطائفة والقبيلة والحكومة، نلجأ إلى رعايتهم وتوجيههم ونبقى بمنزلة الرعايا لا المواطنين الأحرار.