غرفة جدّي
![محمد الحجيري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1481796129992608200/1481796130000/1280x960.jpg)
جدي الذي رأيته في المرة الأخيرة كان يلتقط أنفاسه الأخيرة على فراشه، رأيته من الباب بالصدفة، صورة موته بقيت في ذاكرتي لم تمحها الأيام والسنون، يوم رأيته لم أكن أعرف معنى الموت ولا معنى الحياة، ولا أشعر به. كانت جدتي وأمي تعتنيان به وكانتا تعرفان أنه سيموت، رأيته من الباب يلتقط أنفاسه الأخيرة، فاغراً فمه بلحيته القليلة كأن كل شيء في حياته ترسمه اللحظة الأخيرة. تلك هل الحياة ذلك هو القدر، كان موت جدي أشبه برواية لم تكتب، هو صورة لكلمات في المخيلة.جدي الذي مات في الثالثة والتسعين، أمضى أيامه الأخيرة متنقلاً في زوايا دار بيتنا، أو ذاهباً ألى كرمه حاملاً إبريق الشاي، فيقضي ساعات بين البستان والصلاة، ويعود أحياناً حاملاً بعض أكواز التين وعناقيد العنب. كان يجلس تحت شجرة التوت أو قبالة الشمس أثناء الغروب، لديه هواية في حياكة قبعات الصوف، لكنني لم أسمعه يوماً يتلو حكاية علينا، لم يكن يحب الأحاديث والاختلاط، أمضى أيامه الأخيرة في حياكة القبعات التي ترك منها بعد موته نحو 80 قبعة، وزعتها أختي على رجال شاركوا في جنازته. مات جدي وبقيت صورته على جدار الغرفة في بيتنا، تلك الصورة الوحيدة التي وضعها يوماً ما على جواز سفره للذهاب الى الحج في السعودية قبل أن يمر عن طريق فلسطين. مات الجد وبقيت تحركاته في ذاكرتي.جدتي لا أعرفها، لم أشاهد صورتها، سمعت انها ماتت منذ عقود، حين كان جدي في الخمسين أو الستين من العمر، ماتت وهي قرب النار تحضِّر الطعام لعرس ابن شقيقها، بقيت لسنوات أسمع عبارة «تروح روحة ستي على العرس». جدي الذي مات في الثالثة والتسعين وأصبحت غرفته مستودعاً لكتبي، أحاول اليوم أن أدون حياته في كتاب ربما يخرج من الغرفة، ربما يخرج من بحر النسيان.جدي الذي مات قبل ثلاثة عقود لم يعش في زمن النت، لم يدرك أنه في زمن طوفان المعلومات على الشبكة العنكبوتية، وأننا بتنا نقرأ كل كتاب بطريقة سطحية وكأننا لا نقرأ شيئاً.