في كل البلدان التي أخذت بنظام المحاكم الدستورية فإن المحكمة في رقابتها لدستورية القوانين، والأعمال التشريعية التي يناط بالسلطة التنفيذية إصدارها، لا تبحث عن بواعث القانون أو اللائحة ولا تناقش مدى ضرورتها أو ملاءمتها الدستورية بل تقف رقابتها عند التحقق من توافقها أو مخالفتها لنصوص الدستور.

Ad

عربة تجرها ثلاثة خيول

إلا أن المحكمة الدستورية، شاءت أم أبت، تلعب دوراً سياسياً مهماً في البلدان التي أخذت بنظامها، ذلك أنها مطالبة بإعطاء النص الدستوري المعنى الذي أراده له واضعو الدستور، أو الذي يفرضه عليها الواقع وحاجاته ومقتضياته، فتفرض على هذا الواقع، من ناحيتها ما تعتقده من مثل عليا وغايات ومرامٍ تستلهمها من وجدان المجتمع الذي يعيشه القاضي وهي مبادئ يختلف فيها التقدير من محكمة إلى أخرى ومن قاض إلى آخر في المحكمة ذاتها.

وتحمل هذه المبادئ في طياتها تأثيراً على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بما يجعل لها دوراً سياسياً وهو ما دفع البعض إلى القول بأن نظام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية أشبه بعربة تجرها ثلاثة خيول، الرئيس والكونغرس والمحكمة العليا الاتحادية.

اتجاهات المحكمة العليا في أميركا:

وتسجل أحكام المحكمة العليا الاتحادية للقضاء الأميركي سجل فخار في أحكامها التي قررت الحقوق المدنية للملونين، واعتبرت أن انتقاص قوانين الولايات لهذه الحقوق منطوٍ على إهدار لأحكام الدستور الأميركي.

وقد لاقت هذه الأحكام تجاوباً من الحكومة والكونغرس عندما تقدم الرئيس الراحل كينيدي إلى الكونغرس في عام 1963 قانون الحقوق المدنية مجسداً لمبادئ المحكمة العليا الأميركية، وقد اغتيل قبل إقراره، فأقره الكونغرس في عهد الرئيس جونسون.

وهو نقيض الموقف الذي اتخذه الرئيس الراحل فرانكلين روزفلت عندما قضت المحكمة الاتحادية العليا في أميركا بعدم دستورية القوانين التي أراد بها الرئيس روزفلت توجيه آليات السوق، ليتجاوز بهذه القوانين الأزمة المالية العالمية التي بدأت منذ عام 1929، فقد كانت ردة فعل الرئيس بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة الثانية قيامه بتقديم مشروع قانون بتعديل تشكيل المحكمة الدستورية، لتصبح الأغلبية في جانب الرئيس.

اتجاهات القضاء الدستوري المصري:

وفي مصر كان لقضاء المحكمة الدستورية ردة فعل أخرى، بعد سيل منهمر من أحكامها التي صانت مبادئ الديمقراطية، كما كفلت مبادئ المساواة والحرية الشخصية، ورسخت قرينة افتراض البراءة في المتهم، وحقه في محاكمة عادلة منصفة، كما صانت الملكية الخاصة وكفلت حق التقاضي، وقضت بعدم دستورية قوانين الضرائب التي تنحرف عن المبادئ الدستورية في الضريبة.

الأمر الذي كان له ردة فعل من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية في عام 1998 بتعديل قانون إنشاء المحكمة، ليحد من الآثار المالية التي تترتب على أحكامها، كما كانت ردة الفعل الأكثر تحجيماً لاتجاهات المحكمة هي تعديل أكثر من ثلاثين مادة من مواد الدستور.

اتجاهات القضاء الدستوري الكويتي:

وتوسدت حقوق الملكية الخاصة، والحرية الشخصية والحق في الخصوصية، وحق التقاضي والحريات العامة أحكام المحكمة الدستورية في الكويت.

وكان لولاية المحكمة الدستورية تفسير النصوص الدستورية الدور السياسي الأكبر للمحكمة في تحقيق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفي رقابة العمل البرلماني من الانحراف عن نصوص الدستور، سواء كان سؤالاً أو تحقيقاً برلمانياً أو استجواباً.

ولهذا فإن الحفاظ على هذا الدور المتعاظم للمحكمة الدستورية فى الكويت وعلى استقلالها، يجب أن يكون من أولويات الحكومة ومجلس الأمة، ولهذا قد يبدو غريباً تعطيل انعقاد المحكمة بسبب تراخي إصدار مرسوم تعيين ثلاثة مستشارين أعضاءً بالمحكمة، ومسؤولية هذا التراخى تقع على عاتق وزير العدل، لأن الأمير يمارس سلطاته بواسطة وزرائه إعمالا للمادة (55) من الدستور.

المحكمة الدستورية فى إجازة إجبارية:

نعم فالمحكمة لا  تستطيع عقد جلساتها، ولا تستطيع أن تباشر مهامها والسبب بسيط، هو أن المحكمة الدستورية مؤلفة من خمسة أعضاء أصليين واثنين احتياطيين، وقد تركها ثلاثة أعضاء من أعضائها السبعة، بتقاعد اثنين، واختيار الثالث نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للعدل والأوقاف، فلم يبقَ من أعضائها سوى أربعة أعضاء، وهو عدد لا يكفي لتحقيق نصاب انعقاد المحكمة الذي يتكون من خمسة أعضاء.

وكان المجلس الأعلى للقضاء قد اختار منذ شهور بطريق الاقتراع السري ثلاثة من المستشارين لعضوية المحكمة الدستورية، سوف يعملون بها إلى جانب عملهم الأصلي بمحكمة التمييز أو محكمة الاستئناف.

والمأزق الدستوري والقانوني للمحكمة وللنظام القضائي الكويتي، أن مرسوم تعيين الأعضاء الثلاثة لم يصدر حتى الآن... والسبب غير معلوم ، لأن صدور هذا المرسوم هو أمر وجوبي وحتمي والتزاماً بأحكام المادة الثانية من قانون إنشاء المحكمة الدستورية التي تنص على أن "تؤلف المحكمة الدستورية من خمسة مستشارين يختارهم مجلس القضاء بالاقتراع السري، كما يختار عضوين احتياطيين ويشترط أن يكونوا من الكويتيين ويصدر بتعيينهم مرسوم.

إذا خلا محل أي عضو من الأعضاء الأصليين أو الاحتياطيين اختار مجلس القضاء- بالاقتراع السري- من يحل محله ويكون تعيينه بمرسوم".

ومؤدى هذا النص أن القرار الصادر من المجلس الأعلى للقضاء، باختيار أعضاء المحكمة الدستورية بطريق الاقتراع السري، هو قرار نهائي وبات، تستنفد به السلطة القضائية صلاحيتها في اختيار رجالها، بما لا معقب عليها من أي سلطة احتراما لاستقلال القضاء.

ولا يعدو المرسوم الصادر بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية أن يكون تتويجاً وتكريماً لقضاة المحكمة لصدوره من رئيس الدولة، وهو أعلى سلطة في البلاد وراعي السلطات جميعا، حيث إن هذا المرسوم يصدر عن سلطة مقيدة بقرار المجلس الأعلى للقضاء، تجسيداً للتعاون بين السلطتين التشريعية والقضائية.

ولهذا فإن التراخي في إصدار المرسوم السالف الذكر، يفتح الباب للتكهنات والإشاعات والأقاويل، وهو باب يحسن غلقه إذ يتعلق الأمر بالقضاء وبسير العدالة.