يعشق ولدي الأصغر ذو الستة عشر عاماً فريق الأرسنال الرياضي، ويتابع بشغف الدوري الإنكليزي لكرة القدم بانتظام. ومن عادته أن يرتدي (فانيلة) الأرسنال كلما همَّ بمشاهدة مباراة فريقه المفضل كلون من الحماس والولاء للفريق. وما إن تبدأ المباراة حتى يعيش دور المشجع المتحمس لفريقه حتى النخاع. وقد اعتدنا أن نعرف نتيجة المباراة وما إذا كان الأرسنال قد ربح أو خسر من هيئة صالة المعيشة أثناء وبعد المشاهدة. فإن وجدنا المكان يعج بفوضى علب المشروبات المبعوجة وقناني المياه المقذوفة يميناً وشمالاً والوسائد التي رُفست في الهواء، علمنا أن الأرسنال قد خسر المباراة، وما تلك الفوضى غير تعبير عن الغضب والحسرة. وإن كان الأمن مستتباً وكل شيء كان ثابتاً في مكانه، علمنا أن الأرسنال قد ربح المباراة.

وكم حاولت أن أقنع ابني (الجعدة) وشمعة البيت وقرة العين ألا يعيش دور المفتون باللعبة إلى هذه الدرجة، وألا ينغمس في شعور الغضب أو الفرح المبالغ فيه، فيحرق أعصابه ويفقد اتزانه، فالأمر في النهاية لا يخرج عن انه مجرد مباراة رياضية، القصد من ورائها المتعة والترفيه ليس إلا! ولكن يبدو أن نصائحي كانت تذهب أدراج الرياح أمام إصراره على أن يعيش الدور ويتقمصه بجدارة!

Ad

أذكر هذه الحالة التي تنتاب نجلنا العزيز، وأنا أتأمل في الحدث الذي يحتل الساحة هذه الأيام، وهو التراشق الطائفي الذي أشعله داعية نكرة ليس له في العير ولا في النفير! أتأمل في الأمر وأتعجب كلما رأيت إلى أي مدى تعيش الصحافة المحلية وأعمدة الكتّاب ومواقع المدونين الإلكترونية وأحاديث الدواوين والمؤسسات المجتمعية الدور وتتقمصه حتى النخاع!

فالكل قد تحول إلى ذلك الجمهور الرياضي المتوقد حماساً وغضباً وهياجاً وتحفزاً، يقذف بالعلب المبعوجة والقناني الفارغة يميناً وشمالاً، ويطلق صيحات التهليل أو الاستنكار، ليرد عليه جمهور الجالسين في المدرجات المقابلة بمثل هتافاته أو ضدها! وحيث إن المدرجات أوشكت أن تقذف بجمهورها إلى حلبة التلاسن والصدام، فقد احتاطت قوات حفظ الأمن فنزلوا يلوحون بهراواتهم لتهدئة الجمهور الثائر! ولكن الجمهور يصر على الشغب ويهدد بالويل والثبور إذا لم يحتسب الحكم (الشوتات) الضائعة أهدافاً محققة! وحين يخضع الحكم للأصوات العالية والقبضات المرفوعة تنطلق الصفارة إيذاناً بانتهاء المباراة، ليحتفل أفراد الجمهور في النهاية كل على طريقته!

هكذا يُصنع الحدث عندنا، وهكذا يتطور ويكبر ككرة الثلج، وهكذا يغطي كعاصفة الغبار على كل المشاهد الحياتية الأخرى، وهو لا يعدو أن يكون مجرد لعبة سياسية أو مباراة سجالية اُخترعت لتسخين الجو وإشغال الجمهور وقياس مدى جاهزيتهم للانغماس في أدوار مسرحية رثة، سواءً مثلوا دور البطولة والنجومية أو مثلوا دور الجمهور المتلقي الذي أصابته عدوى الهياج والبلبلة.

ما أكثر الأحداث التي تمر بنا كل يوم، ثم تجري متدفقة عبر نهر الوقت وتذهب، لتأتي غيرها من صغائر الأمور وعظائمها لتمر عبر ذات النهر. تأتي الحوادث وتذهب والإنسان وحده وبإرادته هو من يحدد الموقف من الحدث، فيختار بين أن ينغمس في الدور، فيجعل من صغائر الأمور جبالاً من العظائم، أو أن يقف على رصيف الحدث ويتركه يمر دون صدام ومعاناة وتهويل. ترى كم مر من أحداث مفرحة أو مفيدة أوغنية في مضامينها الإنسانية خلال الأيام القليلة الفائتة، ونحن مشغولون عنها بالسجالات العبثية وغثاثات القيل والقال، ومندمجون دون أن نشعر بالدور المسرحي الذي فرضه علينا حفنة من الجهال والمتكسبون والصائدون في الماء العكر؟! وكم يلزمنا من يقظة ووعي للخروج من الدور والنجاة من حالة التنويم المغناطيسي الذي أوقعنا فيه السحرة والمشعوذون؟!

لم أجد في قاموس اللغة العربية كلمة تحمل هذا الكم الهائل من المعاني وظلال المعاني مثل كلمة (الفتنة). فهي كلمة مثيرة (فاتنة)، تشعل الحرائق وتدعو إلى (الافتتان) والغواية، ثم تتلوى بإغراء وغنج كغانية لعوب تبث السحر الحرام، وتراود القوم عن رزانتهم، وتوشك أن تقدّ قمصانهم من دُبر!

يقول الدلاي لاما في إحدى سوانحه:

.Being happy is not a matter of destiny . It is a matter of option

وقياساً على هذه المقولة، فإن مراودة (الفتنة) أو مجانبتها تبقى مسألة اختيار وإرادة وليست أمراً مقدراً أو ناجزاً. وبالمثل تظل الحكمة ضالة المؤمن، وضالة المواطنة الحقة وأصالة الانتماء.