البغدادي... والموت واقفاً
هكذا إذاً، أسلم الصديق الحبيب الدكتور أحمد البغدادي روحه إلى بارئها. وكما يقال إن الأشجار تموت واقفة، هكذا كان ذلك الرجل الآتي من بعيد، مات واقفاً، لا إفراط ولا تفريط. كانت أبوظبي محطة أخيرة غير متوقعة، ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى "وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت".
على مدى ما يزيد على العام، صارع البغدادي الموت صراعاً مريراً. وأتذكر أنه قبل قرابة العام عندما جيء به من مستشفى دار الشفاء في حالة صعبة إلى المستشفى الأميري، خرج لنا الطبيب ليخبرنا بأنهم عملوا ما يستطيعون، والأمر بحاجة إلى معجزة، وهكذا كان، خرج من الأزمة، ولكنه ظل بين انتعاشة وانتكاسة ومن مستشفى إلى مستشفى، وصل إلى لندن ومكث خمسة أشهر وعاد إلى الكويت دون جدوى، بل إن حاله كان يتراجع. وعندما تقرر ذهابه إلى الولايات المتحدة، كان مقرراً أن يكون خط سيره عن طريق أبوظبي، إلا أن قلبه الضعيف وبطاريته المزروعة لم يسعفاه على الاستمرار، فانسلّ من بين أيدينا كما تتسلل أشعة الشمس. يقول لي ابنه زياد الذي رافقه في الكثير من رحلات العلاج بل رحلات الألم وكان معه في أبوظبي، إنه قد يرتاح من هذا العذاب المستمر ولعلها كذلك. أعرف أحمد البغدادي منذ ما يزيد على 25 عاماً كزميل في قسم العلوم السياسية وكصديق صدوق. وهكذا فعلاقة بهذا الطول والعمق ليست من النوع العابر، أو من اتجاه واحد، فكم اختلفنا في قضايا عديدة، فلم يُفسد ذلك الاختلافُ وداً بل زاده عمقاً. كان دوماً صادقاً لا يداهن ولا يجيد النفاق أو التلوّن. وعلى كل ما كان يبدو ظاهرياً عليه من حدة في الطرح أحياناً إلا أنه كان عفوياً كطفل، تتجسّد فيه أحياناً ما يسمى براءة الأطفال، كل ما لديه من أفكار ورؤى ومشاعر، كان يضعها فوق الطاولة، فصيلة دمه مكشوفة، وكريات دمه البيضاء والحمراء لم تكن بحاجة إلى هذا الكم الهائل من الإبر التي مزّقت جسده في الشهور الأخيرة بحثاً عن مؤشر أو دليل لشيء ما غير مفهوم، مع أنه كان أوضح من شمس الظهيرة. براءة الأطفال تلك لم تمنعه من أن يكون من أبرز الباحثين العرب في مجال الفكر السياسي الإسلامي، وأن يرفد المكتبة العربية بمجموعة رصينة من الكتب والدراسات التي سدت فراغاً فعلياً. عندما جاءنا الخبر أن صديقنا في انتظار ساعاته الأخيرة، داهمني حزن عميق، كتمته بصدري كعادتي، على أمل أن تحدث معجزة كما حدث قبل عام إلا أنها لم تتحقق، عاد بي شريط الذكريات بصمت، توجَّهت إلى البحر، أرقب الموج الذي يغدو ويروح، فأنت يا صديقي كذلك الموج الذي يأتي ويذهب ولكنك لا تغيب، فمكانك القلب والخاطر، وفراغك لن يسده أحد. في غمرة حزن معتادة في مثل هذه الحالة، فكرت في فعل شيء ما. وحيث إنني على وشك الانتهاء من مشروع لتخصيص منح للطلبة من خريجي الثانوية من غير القادرين لتكملة دراستهم في مجالات الكمبيوتر وإدارة الأعمال وغيرها، فلم أجد مدخلاً إلا أن أجعل هذه المنح لروح الصديق أحمد البغدادي، وباسمه، فقد عاش باحثاً ومعلماً وناقداً وداعياً إلى العلم والتنوير. ولربما إن قدر الله لنا أن نلتقي مستقبلاً، سأبلغك يا صديقي ما جرى لمنحتك التي سنخصصها باسمك بإذن الله، وكيف أنها أعانت ستين عائلة على مواجهة مصاعب الحياة. ارقد بسلام يا صاحبي، فقد أحزننا فراقك، والعزاء لأسرتك الوفية فرداً فرداً، وستظل دوماً مثل تلك الأشجار المثمرة التي لا تموت إلا واقفة.